كتاب " الصعود للعمق " للاقتصادي اكبر جعفري
الكثير منّا يمضي يومه أينما وجد بدون لمحة من الهناء والسكينة ولا لحظة خالية من القلق والخوف والسخط واليأس والإرباك والإحساس بالنقص. ليس هناك شيءٌ في الدنيا لديه القوة بهذا المستوى ليسبب هذا الحجم من المعاناة للبشر، لا الكوارث الطبيعية كالزلازل والأعاصير والتي لا تستهدف البشر تعمداً. هناك سبب واحدٌ فقط في كل زمان ومكان وهو الإنسان نفسه. الكوارث التي يجدها الإنسان هي مستدامة ومقصودة ومستهدفة في كل الأحوال بوعي أو بلا وعي. ولهذا السبب ليس هناك أحدٌ بإمكانه أن يعيش يومه بالضبط كما يتمناه. والبشر ليس فقط هو المصدر لمضايقة بني جنسه بل لمضايقة نفسه، من خلال البيئة الداخلية والتي تتسم بالفوضى العارمة. كل هذا يحدث للإنسان والدنيا مليئة بوفرة المصادر والوسائل والتي تُقدَّر بخمسة كوادرليون وهي عشرة أضعاف حاجة الإنسان. إنه هو الإنسان الكائن الذي تسبَّب في مآسٍ جمة ومنتشرة وقهرية.
إنّ تاريخ الإنسان المدوَّن يمتد إلى حوالي 12 ألف سنة وفي هذه المدة الطويلة نسبياً لم يكن يوماً واحداً بلا نزاعات وبلا حروب وبلا فظائع بين البشر، ولذلك تاريخ البشر هو سجلٌ لتوحش البشر ليس إلا. وأنتَ كفرد هل تستذكر أي يوم في حياتك كان في السلام والسكينة؟ على اليقين سوف لن تجد هذا اليوم في سجلك لأنه لم يوجد في الأساس.
كل التعاليم السماوية والدنيوية تأكد بأن أصل الإنسان مكونٌ من السلام والسعادة والحب. هذه المكونات تناقض وبشدة تصرفات البشر والتي انحرفتْ على مدى عشرات الآلاف من السنين. فما الذي حدث؟
الإنسان القديم أو الإنسان الأول كان عاقلاً ومتحضراً ومسالماً ومهذباً وكان موَحداً مع بني جنسه والمخلوقات والكائنات الأخرى والبيئة، والأهم من كل ذلك مع مصدر الكون: الله.
هذا الإنسان بدأ يطوِّر في محيطه فاخترع الأدوات والعجلة ونمط الإنتاج إلى أن حدثتْ لديه زيادة في الإنتاجية ووفرة في المصادر والتي أدَّتْ إلى ضمان تدفق المواد في حينها. الوفرة استدعتْ تكديس التخزين وبدأتْ المقارنة بين الناس إلى درجات عالية من الانشقاق عن الذات الزكية. وظهرتْ الذات المؤذية وتضخمتْ إلى مستويات مؤذية وخطرة وأدَّتْ إلى خنق وكبت الخصال الحميدة الكامنة في الإنسان.
هذا الكتاب يتناول عدة سرديات حول محاور حساسة واقعية والتي تؤثر على سير حياتنا اليومية في مواقع العمل وفي البيئة العائلية وفي المجتمع إجمالاً.
الانشقاق والانحراف عن الذات الزكية وَلَّدَ في الإنسان شخصية موازية ومؤذية جداً وغرسَ ظاهرة اللاعقلانية المتعمدة في الإنسان حيث أصبحت منبعاً لكل مكامن الشر والإيذاء. هذه الشخصية المنشقة عن الذات الزكية تُسمى "الشخصية النرجسية" – وهي الشخصية اللاعقلانية وغير الواعية والأنانية وغير الواقعية والمنشقة من المنظومة الكونية الإلهية. هناك أربعة أنماط من الشخصية النرجسية وعشرة درجات لكل نمط وكلنا نقع على نفس السلم بدرجات مختلفة ما يعني أننا جميعاً لا عقلانيين ومنشقين من ذواتنا الزكية. وإذا اعتقدنا عكس ذلك فهذا ما يأخذنا إلى درجات أعلى من النرجسية وزيادة في الخطورة والإيذاء. أغلب البشر يوجدون على الدرجة الرابعة أو أدنى والتي هي بنفس السمات للشخصية النرجسية ولكن بشدة منخفضة وهي قد تكون غير مريحة وأضرارها بالإمكان بلعها على المستوى اليومي العملي. نعم نحن جميعاً غير مريحين للآخرين ولكن ما يُسمى بالطيبين هم مُضِرون بدرجات منخفضة نسبياً. وأما ما فوق الدرجة الرابعة فالشخص النرجسي هذا يُشكل مصدراً للإزعاج والخطورة ويجب تقييد وضبط تصرفاته إما بالقوانين أو الإرشادات أو بالقوة.
وأما الشخصية النرجسية المفرطة فهو على الدرجة العاشرة القصوى وتُشكل نسبة قليلة من البشر ولكن بإمكانهم تغيير مسار العالم بأسره للأسوأ. وفي كل الأحوال يبني النرجسي تصرفاته على العقيدة (المقصود هنا هو غير عقيدة الدين الصحيح) والتي هي واهية وغير مستندة إلى أية حقيقة. فالعقيدة في حد ذاتها تعني الغموض، بما معناه إن قلتُ "أنا أعتقدُ" يعني "أنا لا أعلمُ"، ومن هذا المنطلق فالشخص النرجسي يبني قراراته وتصرفاته على معطيات غير مستندة لحقيقة وغير واثقة فلذلك وفي أغلب الحالات تكون أفعاله سلبية ومدمرة. فمن أين تأتي هذه العقائد للشخص النرجسي؟ كل شخص لديه أربع مكامن للذاكرة أو بنك للمعلومات وتصرفاته تعتمد على محتوى هذه المعلومات والتي في غالبيتها تكون منتهية الصلاحية. فأول بنك من الذاكرة هو المصدر الجيني أو الوراثي والذي يشكل 50% من الذاكرة في المعدل، والمصدر الثاني هو ذاكرة الطفولة إلى السن 7 من العمر وهو يشكل حوالي 25% من الذاكرة، والمصدر الثالث هو ذاكرة مرحلة المراهقة من السن 7 إلى 23 من العمر والذي يُشكل حوالي 15% من إجمالي الذاكرة، والمصدر الأخير الرابع هو البلوغ أو الرشد من السن 23 فما فوق وهو يُشكل حوالي 10% من الذاكرة. مجمل تصرفات البشرية مستمدة من هذه المصادر التي لا نستطيع التحكم فيها فلذلك نبررها بحزمة من العقائد التي كلَّفتْ وما زالت تُكلف البشرية أثماناً باهظة وغير مبررة.
كما ذكرنا سابقاً بأنَّ هناك مشكلة واحدة فقط في الدنيا وهي انشقاق الإنسان من ذاته الزكية والحل واحدٌ فقط وهو الرجوع إلى الذات الزكية. هذا الكتاب يناقش بأسلوب علمي وعملي كيفية التخلص من الشخصية اللصيقة والنرجسية والرجوع إلى الذات الزكية. والخبر السار وبالتأكيد من المصادر المعنية بأنّ هناك بوادٌ من الأمل لتصحيح مسار الإنسان وإعادة ارتباطه بمصدر الكون "الله".