بقلم : الشيخ حميد المبارك
"حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى، وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ" (البقرة ٢٣٨-٢٣٩).
(١) إدراج آيات الصلاة في وسط سياقات المعاملة.
توجد إلفاتة لطيفة في إدراج آيات الصلاة: (٢٣٨-٢٣٩)، متوسطاً سياق آيات الزواج والطلاق والوصية: (٢٢٦-٢٣٧، ٢٤٠-٢٤٢). وذلك لأن المحافظة على الصلوات هي من أدوات التقوى التي أظهرها العدل والإحسان في المعاملة، وتوضيحه كالتالي:
ا) ثمر العدل: حيث إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: ".. وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ .." (العنكبوت ٤٥)، فهي أيضاً تأمر بالعدل في المعاملة، وذلك لوجود الملازمة بين الأمر به والنهي عن المنكر، فإن كل ما هو خلاف العدل يندرج تحت المُنكَر. ولذلك جاء الجمع بين النهي عن الفحشاء والمنكر وبين الأمر بالعدل: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل ٩٠).
ب) ثمر الإحسان: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (البقرة ٣). ولا يخفى ما في ذكر الصلاة وإطعام المسكين في سياق واحد من إشارة إلى اطراد العلاقة بينهما. فمن لم يُقرِّبْه ركوعه وسجوده من دواعي العدل والاحسان في التعامل، فهو كاشف عن أن ما أتى به هو صورة الصّلاة وليس حقيقتها، فكأنه لم يك من المُصَلِّين: "مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ" (المُدثر ٤٢-٤٤).
ج) مراتب الصلاة: وأول مراتب الصلاة المُعبرة عن الصِّلة ما كان بداعي القُرْب، والذي يتدرج مع التكرار إلى مرتبة الأُنس، ثم يترقّى إلى الشّوق والفرح الذي يأخذ بمجامع القلوب: "إلهي فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشّوق إليك في حدائق صدورهم، وأخذت لوعةُ محبتك بمجامع قلوبهم، فهم إلى أوكار الأفكار يأوون، وفي رياض القُرب والمكاشفة يرتعون" (الصحيفة السجادية، المناجاة الثانية عشرة، مناجاة العارفين).
والخلاصة: إن المداومة على الصلاة ومن ذلك الصلوات اليومية ضرورة لاستدامة هذه المعاني وتأكيدها في النفس. فإن المعنى جذوة تخبو وتنطفئ ما لم تُغذّ وتُرفَد بأدوات الاتقاد.
(٢) أوقات الصلاة.
ا) تعدد الصلوات: ويدل جمع الصلاة مع لام العهد في قوله: "حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ .."، على وجود تشريع سابق لتكرّر إقامة الصلاة في اليوم: "أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" (الاسراء ٧٨)، فإذا فُسِّر دلوك الشمس بزوالها عن كبد السماء فالآية إذن شاملة للصلوات الخمس.
ب) الصلاة الوسطى: قيل هي العصر، لأنها أوسط الصلوات الخمس. وقيل هي الظهر، لأنها تتوسط طرفي النهار: "وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيل .." (هود ١١٤). وهو الوقت الذي تقام فيه صلاة الجمعة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" (سورة الجمعة ٩). وقيل هي الصُّبح، لمجيء التأكيد عليها بالخصوص: ".. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" (الاسراء ٧٨).
والخلاصة: تدل السياقات القرآنية على وجود ثلاثة أوقات للصلاة: الفجر (بداية انبثاق ضوء الشمس)، ودلوك الشمس (الظهر)، وغسق الليل (بداية غروب الشمس). والغاية المناسبة لهذه التوقيتات الثلاثة هي أن يشتغل الانسان بالصلاة في بدء اليوم وفي وسطه ثم في خاتمته، أي قبل الخروج إلى أمور الحياة، وفي ذروة الانشغال بها، ثم بعد الانتهاء منها.
(٣) الوجداني والتاريخي في الدين.
إن الواجبات الدينية على مستويين:
ا) المستوى الوجداني في الدين: وهو المودَع في فطرة الانسان من معرفة الله تعالى وقِيم الحكمة والعدل والاحسان: (النحل ٩٠)، والتي هي تجليات أسماء الله في الانسان: (الحِجْر ٢٩). فهذا المستوى من الديانة لا يحتاج إلى تأليف برهان عقلي ولا إقامة دليل نقلي: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله، ذَلك الدِّينُ الْقَيِّمُ .." (الروم ٣٠)، ولعل هذا أحد معاني: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه" (ميزان الحكمة ٢٥٩٨).
ب) المستوى التاريخي في الدين: والمستوى الثاني من الواجبات الدينية ما ليس وجدانياً من تفاصيل الاعتقاد أو السلوك. وهو الذي يتوقف إثباته على دليل خارجي من رواية أو إجماع. ولأنه يحتاج إثباته إلى صحة النقل فقد أطلقتُ عليه عنوان التاريخية. فتتوقف الاعتقادات التاريخية، وهي كلُّ ما عدا معرفة الله الواحد، على قيام الحجة والدليل النقلي في الاثبات. كما تتوقف الأحكام التاريخية، وهي كل ما عدا الوصايا القِيَمية، على قيام الحجة والدليل النقلي في الاثبات وفي مقدار السعة من حيث الزمان والمكان.
والخلاصة: إن المستوى الوجداني من الدين هو دليل الفطرة السليمة، وهو شرط في الصلاح والاستقامة. وأما المستوى التاريخي فليس شرطاً بما هو في الصلاح والاستقامة، أي بغض النظر عن قيام الحجة: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة ٦٢). لكنه يكون شرطاً في الصلاح والاستقامة حين يتم الدليل عليه وتقوم الحجة فيه: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (البقرة ١٤٦).
(٤) الصلاة بين الوجداني والتاريخي.
بناء على ما تقدم، هل الصلاة من الوجداني الذي يُدرك بالفطرة، أم من التاريخي الذي يتوقف إثبات وجوبه على الدليل النقلي؟ وتوضيح الجواب كما يلي:
ا) إن أصل الصلاة بمعنى الصِّلة القولية والسلوكية بالله هو من الأمور الوجدانية، وذلك لأنه من ثمار معرفة الله تعالى. فمن لا يذِكر الله أبداً ولا يدعوه في الضيق ولا يشكره في السعة فذلك شاهد أنه لا أثر للمعرفة الربانية في قلبه:
إن الكلام لفي الفؤادِ وإنما ** جُعل اللسان على الفؤاد دليلا.
ب) وأما الكيفية من حيث الركوع والسجود والقِبلة وعدد الركعات، فلا شك أنها تندرج في التاريخي، وهو الذي يتوقف إثباته على دليل خارجي كالرواية أو الإجماع.
(٥) كيفية الصلاة.
لم يرد في القرآن الكريم بيان كيفية الصلاة بنحو مفصل.
(١) نعم جاء التنبيه على بعض الكيفيات، نظير:
ا) القِبلة: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ .." (البقرة ١٤٤).
ب) والركوع والسجود: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ .." (الحج ٧٧). وقد يأتي عنوان السجود للدلالة على مطلق الخضوع: "وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ .." (الرعد ١٥-١٦).
(٢) بل تشير بعض السياقات القرآنية إلى وجود كيفية معهودة بين المسلمين: "فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ" (البقرة ٢٣٩). وفي سورة النساء ١٠١-١٠٢: "وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا .. وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُم طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ .."، ثم قال: ".. فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا .." (النساء ١٠٣)، والظاهر أن المقصود بإقامة الصلاة في حال الطمأنينة والأمن هو الكيفية التامة في قبال الصلاة المقصورة في حال الخوف. وفي كتاب الأذان من صحيح البخاري عن النبي (ص) أنه قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وقد استشهد به فقهاء الشيعة أيضاً، ومنهم العلامة الحلي في "مختلف الشيعة" و "نهاية الإحكام".
والخلاصة: قد استقر التّباني القطعي بين المسلمين على الالتزام بكيفية معهودة للصلاة تشتمل على القيام والقراءة والركوع والسجود مع عدد الركعات لكل وقت من الأوقات. وهذا التّباني من الوضوح بحيث لا يحتاج معه إلى دليل آخر: ".. وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ" (البقرة ٤٣).