بقلم : محمد محفوظ - القطيف
ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها ، حينما نود الحديث عن طبيعة العلاقة بين الأديان والإنسان . وهذه الحقيقة هي أن الأديان السماوية بكل أنظمتها وتشريعاتها ، جاءت من أجل خدمة الإنسان وسعادته . بمعنى أن الالتزام بتشريعات الدين وأنظمته ، تفضي على المستويين العام والخاص إلى سعادة الإنسان واستقراره على جميع المستويات . ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتصور الدين الذي أنزله الباري عز وجل بمعزل عن الإنسان ومصالحه النوعية .
فالعلاقة جد وطيدة وعميقة بين تشريعات الدين ومصالح الإنسان الخاصة والعامة . فهي تشريعات تصون الإنسان وتحمي حقوقه ومكاسبه . لذلك نجد أن القرآن الكريم أنكر على أهل الكتاب تنازلهم عن حقوقهم المشروعة وحرياتهم الإنسانية التي ولدوا عليها ، ورضوا بالعبودية لرهبانهم وأحبارهم الذين تبوؤا سلطة التشريع بدل الحق جل وعلا .
وفي هذا يقول ربنا سبحانه وتعالى ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) .
فالأديان جاءت من أجل تحرير الإنسان من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى ، لذلك نجد القرآن الحكيم يدعو أهل الكتاب كافة ليتحرروا من هذه الأغلال والعبودية لغير الله ، وأن يفردوا الله وحده بالعبادة والخضوع . إذ قال تعالى ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) .
فالإنسان وفق الرؤية الربانية هو أكرم المخلوقات حيث نفخ فيه من روحه ، وهو الوحيد من مخلوقاته جل وعلا الذي اختاره ليكون خليفته في الأرض ، وكرمه بالعقل وهداه السبيل ، وعلمه البيان وسخر له ما في السماوات وما في الأرض ، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة .
وعلى هذا فإن جميع القيم والتشريعات الإسلامية ، جاءت من أجل تحرير الإنسان وحمايته وتكريمه والسمو به في مدارج الكمال والرقي المادي والمعنوي .
وفي سياق بيان دور الأديان في بناء الإنسان ، نود أن نثير النقاط التالية :
1- حينما نريد أن ندرس التجربة الدينية في حياة الإنسان المعاصر ، من الضروري التفريق والتمييز بين مستويين وهما :
أ- المستوى المعياري : وهو مجموع القيم والمبادئ الخالدة ، وهي العابرة لحدود الزمان والمكان . ولا مشكلة لدينا على هذا المستوى . إذ أننا نعتقد وبشكل جازم أن الباري عز وجل لم يشرع للإنسان القتل والعدوان وممارسة الكراهية بكل مستوياتها وأطوارها . فالأديان السماوية كما أنزلها الله هي منبع الخير المطلق .
ب- المستوى التاريخي : وهو مجموع الجهد البشري والدين كما هو معيوش .
ويبدو أن كل الإشكالات المتعلقة بين أهل الأديان التوحيدية الثلاثة ، تستوطن هذا المستوى . وينبغي أن تتجه كل الجهود الحوارية نحو صياغة علاقة إيجابية بين أهل هذه الأديان ، بعيدا عن إكراهات وعبء التاريخ .
وعلى أهل هذه الأديان في هذه اللحظة التاريخية الحساسة أن يتخذوا موقفا صريحا وواضحا تجاه الظواهر الثلاث :
1- ظاهرة الحركة الصهيونية في التجربة الدينية اليهودية ، وهي الحركة التي اغتصبت أرض فلسطين ، وهجرت وقتلت شعب فلسطين ، وكل ذلك تم بغطاء ديني توراتي .
2- ظاهرة الاستعمار ونزعات السيطرة والهيمنة التي سادت المجال الحضاري الغربي ، واستفادت من الغطاء الديني المسيحي ، وصولا إلى ظاهرة المحافظين الجدد في التجربة الدينية المسيحية .
3- ظاهرة الغلو والتطرف والإرهاب الديني في التجربة الدينية الإسلامية . وهي الظاهرة التي عاثت في أصقاع الأرض فسادا وقتلا ، وعملت كل هذه الجرائم بتفسير وغطاء ديني إسلامي .
إننا نعتقد أن بذل الجهود الثقافية والدينية لرفع الغطاء الديني عن كل هذه الظواهر ، سيساهم في خلق السلم الإنساني والدولي .
2- إن التعايش بين أهل الأديان اليوم ، بحاجة إلى التأكيد على المقولات التالية :
أ- ضرورة الانتقال في عملية الحوار من النطاق اللاهوتي إلى النطاق الثقافي الذي يبني حقائق التسامح والحرية واحترام الآخر وجودا ورأيا في الفضاء الاجتماعي .
ب- الاهتمام الجاد بمسألة حقوق الإنسان ، فالاختلاف الديني لا يشرع بأي حال من الأحوال انتهاك حقوق الإنسان .
إننا نعتقد أن انفتاح الثقافات الدينية المعاصرة على ثقافة حقوق الإنسان ، سيفضي إلى المساهمة في بناء عالم أكثر عدالة وتسامحا وحرية .
3- إن تنمية القيم الروحية في المجال الإنساني المعاصر ، يتطلب ضمن ما يتطلب إلى أن تتبنى المؤسسات الدينية في كل الأديان مقولات بناء النظام السياسي المرن والديمقراطي .
فالأنظمة السياسية المنسجمة مع خيارات شعوبها الثقافية والسياسية ، هي الأقدر على تنمية القيم الروحية في المجتمع .
فلنرفض جميعا كأهل أديان سماوية ، كل أنظمة الجور والعسف والهيمنة. حتى تصيغ القيم الروحية المبثوثة في الأديان السماوية كما أنزلها الله سبحانه وتعالى حقائق المحبة والسلام في حياة الإنسان فردا وجماعة .
4- إن أحد وجوه الأزمة والتي تنعكس سلبا في مجالات الحياة المختلفة ،هي تضاؤل النزاهة الأخلاقية والعملية لدى شريحة معينة من أهل الدين . فلم يمتثل هؤلاء مثل الدين الحقيقية تمثلا كافيا ،كما أنهم لم يكونوا أمناء على حقوق مجتمعاتهم وأمتهم برغم كل الدعاوى التي صدروا عنها أو صدرت عنهم .
ويعبر عن هذه الحقيقة الدكتور فهمي جدعان بقوله :إذ إنه يؤسفني جدا أن أصرح بأن أغلبية الناس وأكاد أقول جميعهم ،بإطلاق ـ ومن بينهم مفكرون ومثقفون كبار ـ، وأن كانوا يفاخرون دوما بأنهم يحتكمون إلى العقل ويسلكون وفقا لتوجيهات العقل ،إلا أنهم في أغلبية الأحوال يتحركون بنوازعهم ورغباتهم وإيراداتهم وأهوائهم ولايستخدمون العقل إلا من أجل الوصول إلى هذه الأغراض بأدق الطرق وأحكمها و؟أكثرها ضبطا وإحكاما . ويستوي في ذلك الأخيار والأشرار .وهذه هي قضيتنا مع العقل .إنه أداة بالغة الخطر ،ولكنه أداة لبا يستطيع أحد الاستغناء عنها ،وكي تؤتي ثمارها الإنسانية الطيبة لا بد من إحاطتها بسياج من القيم العالمية ولا بد من تحريرها من رغباتها وأهوائها المضادة للموضوعية ولخير الإنسان وكرامته ،ولا بد بشكل خاص من أن نحول دون تحول هذه القوة إلى سلاح ضارب يقضي على معاني الإنسانية فينا وعلى حساسيتها الجمالية ، ويدمر قيم الحرية والكرامة والعدالة في عالم الإنسان .
وثمة مدارس وتجارب دينية عديدة ،حاولت من خلال محطات تجربتها وآفاقها وممارساتها ، أن تقدم إجابة أو إجابات على الأسئلة الوجودية التي تعترض الإنسان الفرد والجماعة في مسيرته الإنسانية . وهذه التجارب الدينية هي في تقديري ، إحدى الإجابات التي قدمتها الحالة الدينية الإنسانية كوسيلة من وسائل السلم والسلام . حيث أن السلم الذاتي والانسجام الداخلي وارتفاع وتيرة الإيمان في نفس الإنسان ،هي أحد المداخل الرئيسة لإنجاز مفهوم السلام في الحياة العامة .
ولعل التجارب أو المدارس العرفانية الإسلامية والمسيحية هي أحد نماذج ذلك "وهذا العرفان المدروس ( على حد تعبير كتاب الأسس النظرية للتجربة الدينية – قراءة نقدية مقارنة لآراء ابن عربي ورودلف أتو ) ، ربما تختلف مفرداته ، فيتم توظيف المفاهيم والأفكار التي تشرح بتفصيل أو بإجمال سير العارف العملي في أعماق الأنفس والآفاق ، وهو ما يسمى بالعرفان النظري ، الذي يمثل محيي الدين بن عربي عماده وركنه .
وإذا استهدفنا من العرفان النظري هذا دراسة وتدوينا وتعليما ، الحصول على تصورات عقلية لظواهر غير عقلية كما يقول أصحابها ، فليس ذلك بالأمر السلبي أو المحال ، فبالإمكان خلق مفردات ونحت مصطلحات وابتكار سياقات لفظية للتعبير عن حالات روحية عميقة ، وهو أمر يتصاعد في عسره كلما تعمق الإحساس وغاص في دهاليز الروح ، وهو إن دل فإنما يدل على نضوج عقلي وثراء لفظي .
وهذا العرفان النظري ، يخضع – هو الآخر – لنظام التعليم ونقل الأفكار وانتقالها طبيعة ، ومن ثم فأحد أهداف هذا العرفان هو تكوين تصورات نظرية عقلية عن تجارب روحية ، تماثل الدور الذي يلعبه علم النفس أحيانا . لكن السؤال البارز هنا ، والذي كان محط خلاف بين المشتغلين بالعرفان ، هو هل أن جذب السالك إلى هذا الطريق يكون عبر خلق تصورات نظرية عن التجربة ، أم أن ذلك لا يتم إلا بأسلوب عملي ربما يكون قائما على ممارسات طقسية وذكرية ، أو على أنواع تربوية تهذب النفس وتصفيها ؟ " .
ولقد جذبت هذه التجارب العديد من الشخصيات ،وأضحت مدخلا هاما من مداخل اكتشاف مخزون ومكنون القيم الروحية في الديانات التوحيدية الكبرى . وذلك لأن حجر الأساس في هذه التجارب ،هو الاندفاع القلبي - الطوعي - الاختياري الذي يدفع الإنسان صوب التفاعل الخلاق على صعيد القناعات والمسلك مع قيم الدين ومثله العليا . وتطهير الباطن أو توفير المقدمات الروحية هي الشرط الشارط للانخراط في هذا المسلك أو التجربة الدينية العرفانية .
فالعلاقة بين الدين والإنسان ، علاقة عميقة ودائمة . ولا يمكننا أن نتصور أن تكون القيم الدينية في موقع مضاد للإنسان وجودا ومصلحة . فدائما قيم الدين ومبادئه مع الإنسان ، ووظيفتها الأساسية هي الحفاظ على الإنسان في مختلف المستويات والدوائر .
وفي المحصلة النهائية ، الأديان جاءت من أجل خدمة الإنسان ، لكي يعيش حياة سعيدة ومستقرة . لذلك قرر الفقهاء أن أحكام الشرع تدور مع المصلحة وجودا وعدما .