بقلم : عبد النبي الشعلة
“اللي ما يعرف الصقر يشويه” مثل خليجي متداول، يُضرب للشخص الذي لا يقدر قيمة الأشياء المعنوية والمادية الثمينة. والمعروف أن الصقر طائر جارح ذو قدرة خارقة على السيطرة والإمساك بطريدته من علو شاهق بدقة ومهارة تثير الدهشة والإعجاب، وأصبح الصقر عند عرب الخليج رمز التعالي والتسامي والقوة والدقة والشجاعة وغيرها من الفضائل، ومن لا يعرف الصقر ويقدر مهارته وقيمته يعامله معاملة باقي الطيور، وقد يشويه كما تشوى طيور الحبارى والحمام، وهكذا الحال مع كل الأشياء القيِّمة؛ فمن لا يعرف قيمتها ومدى أهميتها يهدرها ويفرط فيها.
هذا المثل ذكرني بقصة سيارة “المرسيدس بنز” الفاخرة، التي أهداها المستشار الألماني أدولف هتلر إلى الملك فاروق بمناسبة زواجه من الملكة فريدة في العام 1938، وقد كان فاروق وقتها يحمل لقب “صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان وصاحب النوبة وكردفان ودارفور”، ولم يحافظ من خلفه في حكم المحروسة مصر على هذا اللقب، فعندما توفي أول رئيس للجمهورية كانت السودان بأقاليمها قد انفصلت عن مصر، وصار لقب الرئيس جمال عبدالناصر: رئيس جمهورية مصر العربية ناقصا سيناء وقطاع غزة.
ولنعد إلى السيارة الفاخرة، التي تعرضت للشواء والتي أهداها هتلر للملك فاروق، فقد كانت من إنتاج العام نفسه، 1938، وتتمتع بأعلى مواصفات الأناقة والفخامة والقوة، وأنتج منها 3 قطع فقط صارت رمزا وعنوانا للفخامة وتميزت بتصميمها الفريد، ضمن طراز مرسيدس بنز 770 الراقية، ما جعلها أحد أفضل الإنجازات الهندسية وقتها، وتحفة فنية فاخرة تليق بهدية ملكية. وقد احتفظ هتلر بواحدة منها والثانية أهداها لحاكم إيران القوي وقتها شاه رضا بهلوي والثالثة للملك فاروق.
والملك فاروق كان في ذلك الوقت في ريعان شبابه، ولم يكن معجبا بالسيارات الكبيرة الفارهة، وكان يفضل قيادة السيارات الرياضية مثل “بوغاتي” و “أوستن مارتن” و “إم جي” وما شابهها من السيارات المتميزة، وقد عرف بحبه لقيادة السيارات بسرعة مبالغ فيها، لكنه في اليوم الخامس عشر من نوفمبر 1943 قرر قيادة سيارته المرسيدس بنز الفاخرة على طريق عودته من الإسماعيلية إلى القاهرة، وعند منطقة “القصاصين” اصطدمت سيارته بشاحنة عسكرية إنجليزية فأدخل على إثر ذلك المستشفى، وصار يشعر بالتشاؤم تجاه هذه السيارة التي أصيبت بأضرار بالغة جراء الحادث.
وبعد نجاح ثورة أو انقلاب 1952، قام الضباط الأحرار وحاشيتهم ومعاونوهم برصد أو تصفية الممتلكات والمقتنيات الملكية المصرية، بما في ذلك أسطول السيارات الفاخرة الخاصة بالديوان الملكي ما عدا سيارة المرسيدس التي عدّت ملكا خاصا بالملك؛ كونها هدية خاصة أهديت له من مستشار ألمانيا، لكن ذلك لم يدم طويلا حتى امتدت الأيدي إلى باقي المقتنيات والممتلكات والتحف والمجوهرات الخاصة بالملك وأفراد الأسرة الملكية، ولعل ذلك ما فتح أعين الضباط الأحرار وشهيتهم فشرعوا بتطبيق سياسة التأميم في مصر بشكل موسع كجزء من سياسات التحول الاشتراكي، وشملت عمليات تأميم القطاعات الاقتصادية الرئيسة، بدءا من قناة السويس ومرورا بكل البنوك وشركات التأمين والمصانع الكبرى، وتم نقل ملكيتها إلى الدولة بهدف تعزيز سيطرة الدولة على الاقتصاد وتحقيق العدالة الاجتماعية! إلى أن تمددت وتوسعت هذه السياسة لتطول كل مرافق وقطاعات الإنتاج والخدمات، وتسببت في تدني وتراجع مستوى هذه الخدمات والمنتجات وانهيار بعضها، وباقي القصة المأساوية معروف.
وهناك تقارير وشهادات تشير إلى أن بعض مقتنيات وثروات الملك فاروق والعائلة المالكة تعرضت للسرقة أو الاستيلاء عليها بعد انقلاب أو ثورة 1952، وبينما كانت الحكومة المصرية قد صادرت رسميا معظم ممتلكات العائلة المالكة لصالح الدولة، فإن بعض المقتنيات والتحف والمجوهرات والقيم الثمينة قد فُقدت أثناء عمليات المصادرة أو تمت سرقتها أو هدرها والتفريط فيها، ومنها السيارة الفخمة التي أهداها هتلر للملك فاروق، فقد عرضت وهي في حالة سيئة مهملة للبيع كخردة في مزاد، وبيعت لأحد التجار من “وكالة البلح” (وهي منطقة في القاهرة مخصصة لبيع السيارات الخردة وقطع غيار السيارات المستعملة وما شابه)، بمبلغ 70 جنيها مصريا فقط! الضابط المسؤول عن بيع السيارة لم يكن يعرف القيمة الحقيقية لها، لكن المشتري يعرف ذلك تمام المعرفة، فقام على الفور بشحنها إلى إيطاليا خوفا من إدراك جهاز التصفيات لقيمتها الحقيقية والمطالبة باسترجاعها، وهذا ما حدث بالفعل، فعندما وصل خبر بيعها للحكومة الألمانية بادر مستشار ألمانيا الغربية في ذلك الوقت السيد/ كونراد أديناور بالاتصال بالرئيس جمال عبدالناصر، مبديا استعداد ألمانيا لدفع أي مبلغ تحدده مصر مقابل استعادة السيارة، لكن العرض جاء متأخرا، فقد تم تداول ملكية السيارة في إيطاليا بشكل خاطف سريع بين أيدي من يعرفون قيمتها الحقيقية.
السيارة ذاتها معروضة اليوم في متحف خاص بموسكو لمليونير روسي، وقد رفض بيعها بمبلغ مليار دولار، وصدق من قال “اللي ما يعرف الصقر يشويه”.
هتلر في العام 1933 كان قد أهدى سيارة مرسيدس بنز ذات بابين، فاخرة ومميزة أيضا إلى الملك غازي بمناسبة اعتلائه عرش المملكة العراقية، ومن الواضح أن هدف هتلر من هذه الهدايا الترويج لأفخم السيارات التي تنتجها شركة “مرسيدس بنز” التي كانت وقتها تعد فخر الصناعة الألمانية المتطورة، إلى جانب ذلك، بل الأهم منه، فقد كانت تلك الهدايا بمثابة الرسائل المعبرة عن الرغبة في توطيد وتطوير علاقة ألمانيا بهذه الدول.
الحلفاء وفي مقدمتهم بريطانيا العظمى وهم في ذروة معارك الحرب العالمية الثانية كانوا مدركين لأهداف ونوايا هتلر، وقلقين من توجهاته، ومتوجسين من نجاحه في استقطاب تأييد أو تعاطف هذه الدول مع عدوّتهم ألمانيا النازية، والملك غازي على سبيل المثال لم يكن بالملك الذي أرادته بريطانيا، فقد كان شابا وطنيا متحمسا وقف على مساوئ البريطانيين ووعودهم الكاذبة لجده الشريف حسين وللعرب، فنشأ على كُرههم، وقد توفي في ظروف غامضة! في حادث سيارة في 4 أبريل 1939 عندما اصطدمت السيارة المرسيدس التي أهداها إياه هتلر والتي كان يقودها بعمود كهرباء في بغداد، ما أدى إلى وفاته على الفور!
ولعله من قبيل الصدف أن يتعرض الملك فاروق لحادث مروري مماثل عندما كان يقود سيارة المرسيدس بنز الفاخرة التي أهداها إياه هتلر على طريق عودته من الإسماعيلية إلى القاهرة، إذ اصطدمت بشاحنة عسكرية إنجليزية، أدخل على إثره المستشفى وكاد أن يفقد حياته.
وكان الملك فاروق دائم الإحساس بالمرارة والاستياء تجاه البريطانيين، وقد عمق هذا الإحساس ما قامت به القوات البريطانية في الرابع من فبراير 1942 عندما حاصرت قصر عابدين بالدبابات، بقيادة السفير البريطاني في القاهرة الذي وضع الملك فاروق أمام خيارين؛ الأول استدعاء زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس لتشكيل الحكومة بمفرده، والثاني أن يتنازل عن العرش، وقد رضخ فاروق واضطر صاغرا إلى القبول بالخيار الأول، ومع ذلك فقد تمت إزاحته عن عرش مصر في العام 1952، ومات في العام 1965 في ظروف غامضة في منفاه في روما، وفي عمر لم يتجاوز 45 عاما.
وكل من أبدى أدنى درجات التعاطف مع دول المحور أو قَبِل هدايا هتلر لقي المصير نفسه، بقي رضا شاه بهلوي، مؤسس الدولة البهلوية في إيران، الذي لم يخف إعجابه بهتلر ورغبته في التعاون معه لصد التهديدات الأنجلوروسية لبلاده، وكان هتلر قد أهداه في العام 1938سيارة مرسيدس بنز فاخرة نادرة من طراز 500K، وبعد ثلاث سنوات من استلامه الهدية، أي في العام 1941 أزاحه البريطانيون عن “عرش الطاووس” وساقوه إلى المنفى في مومباي، ثم موريشيوس وأخيرا جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا حيث قضى آخر عامين من حياته، ومات في العام 1944.
ولا أدري إن كان أحد قد تجرأ بعد ذلك على قبول أي هدية من هتلر أو من أي قائد أو زعيم مناوئ أو منافس لأي من دول القوى الكبرى.