DELMON POST LOGO

نظرة في القواعد القانونية للعلاقة الزوجية 2-2

بقلم : الشيخ حميد  المبارك

إن المرتكز العقلاني والشرعي بمثابة القرينة المقامية المُحتفّة بالخطابات، والتي توجب تقيّد جميع الإطلاقات اللفظية في موارد الحقوق. فما دل على تسلّط الشخص على ملكه بأنحاء الاستعمال، نظير الاصلاح وفتح المنافذ وتعبيد الطريق إليه، هو مُتقيًد لُبِّياً ومن الأوّل بما لا يلزم منه ضرر خارج عما هو المتعارف في استيفاء الحق، فلا يفتح نافذة يكشف بها عورات جاره، ولا يشق طريقاً يؤدي إلى حصار جاره في ملكه. وكذلك ما دل على تسلّط الرجل في شؤون العلاقة الزوجية والطلاق والرجوع عنه أثناء العدة، فإنه مُتقيِّد لُبِّياً ومن الأوّل بحدود القِوامة التدبيرية المتعارفة، والتي لا يترتب عليها ضرر على الطرف الآخر زائداً عما هو متعارف في اقتضاء تدبير العلاقة: ".. فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ .." (النساء ١٢٩).

الموضوع الثالث: تقيّد الحقوق بالمعروف وعدم الضرر والاضرار.

تشتمل الآيات على بيان سُلطة الرجل في شؤون العلاقة الزوجية والطلاق والأحكام المتفرعة عليهما. لكن تلك السُّلطة ليست على إطلاقها:

(١) فقد دل قوله تعالى: ".. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ .."، على تقيّد قِوامة الرجل بما يقتضيه المعروف (الحس المشترك) في طبائع التعامل. وقد تكرّر هذا القيد في سياق الآيات المُتصلة في بيان حدود العلاقة الزوجية: ".. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ .. فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ .. وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ .." (البقرة ٢٢٨- ٢٢٩، ٢٣١، ٢٣٣). ويدل هذا التكرار على تأكيد تقيّد حق القوامة بالضوابط المتعارفة لدى العقلاء والمرتكزة في الشرائع: "كَذلِكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ، كُونُوا سَاكِنِينَ بِحَسَبِ الْفِطْنَةِ مَعَ الإِنَاءِ النِّسَائِيِّ الأضعَف، مُعْطِينَ إِيَّاهُنَّ كَرَامَةً .." (رسالة بطرس الأولى ٣: ٧).

(٢) وتستند ضابطة التعامل بالمعروف إلى قواعد يُقِرّ بها أهل العقل والشرائع، ومن ذلك مضمون الحديث المشهور لدى الفريقين: "لا ضرر ولا ضرار". والفرقُ بينَ الضَّرر والضِّرار هو القَصد، وإذا وقع الضرر بدون قصد ثم تبيَّن لِمَن وقَع منه الضَّرر وجب عليه رفعُه. والمقصود بالنهي عنهما هو المرتبة الخارجة عن المتعارف، فإن استيفاء صاحب الحقّ لحقِّه هو لا محالة موجب لتقييد من عليه الحقّ، وذلك نوع من الضرر بالنسبة إليه، لكن هذه الرتبة ليست هي المقصودة بالنهي وإلا لزم على صاحب الحق عدم استيفاء حقه أصلاً. فالمنهي عنه إذن هو الرتبة الخارجة عن المتعارف في أصل استيفاء الحق، كما هو واضح في السياقات أيضاً: إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان وكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشكا إليه وخبره الخبر فأرسل إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخبره بقول الأنصاري وما شكا، وقال: إن أردت الدخول فاستأذن فأبى فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمد لك في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأنصاري: اذهب فاقلعها وارمِ بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار. (الكافي ج ٥، باب الضرار، الحديث ١). وواضح أن قلع النخلة كان عقوبة للمضار لإصراره على المُضارة. وجاء في الموسوعة الحديثية: وقد قَضى بذلك، أي: "لا ضَررَ ولا ضِرارَ"، رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في الجارَيْن إذا اختَلفَا .. وهذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ في أبوابٍ كثيرةٍ، ولا سيَّما في المعامَلاتِ: كالبيعِ والشِّراءِ والرَّهنِ والارتهانِ، وكذلك في الأنكِحةِ، بحيثُ لا يُضارُّ الرَّجلُ زوجتَه أو هي تُضارُّ زوجَها، وكذلك في الوصايا وألَّا يُوصيَ الرَّجلُ وصيَّةً يَضُرُّ بها الورثةَ؛ فالقاعدةُ: مَتى ثبَت الضَّررُ وجَب رفعُه، ومتى ثبَت الإضرارُ وجَب رفعُه مع عُقوبةِ قاصدِ الإضرارِ. انتهى. (موقع الدرر السنية، الموسوعة الحديثية).

(٣) بل لا حاجة للتدقيق في طرق هذا المضمون وأسانيده، وذلك لكونه منسجماً مع البناء العقلاني العام في تقيّد سلطة الحق بالمراتب التي لا يلزم منها الأذى والاضرار بالنفس أو الغير ضرراً غير متعارف. ومع إن الأولاد هم الأقرب إلى الأمهات والآباء، لكن الله تعالى يقول: ".. لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا، لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ .." (البقرة ٢٣٣)، وهذا شاهد تأصل ملاك قاعدة نفي الضر في منظور المُشرِّع، حتى إن قوله: ".. لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا .."، ليس محض رخصة، بل هو متصل بملاكات التشريع، والذي يكون خلافُها خارجاً عما هو المنظور في مقاصد التشريع.

الموضوع  الرابع: الطلاق في القرآن الكريم

(١) تقيّد حق الزوج في الطلاق.

ومع إن سياق الآيات واضح في سُلطة الزوج على الطلاق، وذلك لنسبة صدوره إلى الزوج في أكثر من مورد، ولكن يُعلم من المطلب السابق أن هذا التسلّط ليس على إطلاقه بل هو مشروط بعدم المُضارّة، ويؤيّد ذلك:

ا) قوله: ".. فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان ..". والمقابلة في الآية تصلح تأسيساً لعدم جواز الخروج عن أحدهما، فإذا عجز الزوج عن الإمساك بالمعروف أُلزِم بالتسريح بإحسان.

ب) وقوله: ".. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ .."، أي إن خافا أن يكون بقاء العلاقة سبباً في أن لا يقيما حدودَ الله فإنهما يصيران إلى المخالَعة. وهو واضح في عدم جواز المضارّة وتعدي الحدود في التمسّك بالعلاقة الزوجية.

ولمعرفة حدود استحالة العشرة لابد من معرفة ما هي العُشرة التي لو استحالت صح إلزام الزوج بالطلاق. ويمكن تعريف العُشرة في مقصود المُشرع من خلال الضابطة العقلانية المُضمنة في نصوص المُشرع، وخلاصتها المودة والرحمة: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً .." (الروم ٢١). والسّتر: ".. هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ .." (البقرة ١٨٧). فيضر بالعشرة كل ما ينافي تلك الغايات بسب وقذف، أو تعديه عليها بالضرب أو أمتناعه عن توفير نفقاتها وأطفالها، أو للهجر لغيابه وسفره، أو سجن الزوج، أو ثبوت كونه محتالاً في أمور معتد بها.

(٢) تقيّد حق الرجوع أثناء عدة الطلاق.

الواضح في السياقات أن للزوج المُطلِّق حقّاً أوّلياً في إرجاع المُطلقة ما دامت في العدة: "وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ .. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا .." (البقرة ٢٢٨):

ا) لكنه جاء مُقيَّداً بالاصلاح وعدم المُضارّة: ".. وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا ..".

ب) وأيضاً، جاء مُقيَّداً بعدم إسفاف الزوج في استخدام ذلك الحق: "الطَّلاقُ مَرَّتَانِ .. فَإِن طَلَّقَهَا، فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ .." (البقرة ٢٢٩-٢٣٠)، فقد تقيّد حق المُطلِّق في الرجوع بعد الطلاق الثالث، بحيث صار مرهوناً باختيار المُطلَّقة، وذلك في قبولها الزواج برجل آخر ثم قبولها الزواج مجدداً بالرجل الأول فيما لو طلقها الآخر: ".. فَإِن طَلَّقَهَا"، أي الزوج الثاني: "فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا"، أي هي وزوجها الأول: "أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ".

ج) ويتصل بضابطة المعروف وعدم المضارة، مقدار ما يطلب الزوج من البذل في المخالعة. فإن ظاهر تكرّر قيد "بالمعروف" في سياق الآيات: (البقرة ٢٢٨- ٢٢٩، ٢٣١، ٢٣٣) هو تأكيد التنبيه على القرينة العقلانية العامة المقامية في موارد الحقوق، وهو اشتراط أن لا يترتب ضرر زائد على ما يقتضيه المتعارف في استيفاء الحق.

(٣) تداخل القيود في العلاقة الزوجية.

وقد يقال: إن اشتراط المُطلِّق ثلاثاً بأن أن تتزوج المُطلَّقة من آخر ثم يُفارقها، وإن كان تقييداً لسُلطة المُطلِّق في الرجوع، لكنه تقييد للمُطلّقة أيضاً فيما لو كانت ترغب في الرجوع، فإنه يلزمها حينئذ أن تمكّن نفسها من رجل آخر ثم تنتظر أن يُطلِّقها. وقد تُذكَر لمثل ذلك أمثلة عديدة، نظير: "لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة ٢٢٦-٢٢٧)، فإن هذا الحكم جاء لتقييد حق الزوج في مدة الإيلاء بأربعة أشهر ثم يكون عليه أن يرجع عن الإيلاء أو يُطلِّق، لكن ذلك يؤثر على المرأة أيضاً من حيث لزوم أن تصبر أربعة أشهر وهي تجهل مصيرها دون مقاربة.

والأمر الذي يجب الالتفات إليه هو: إن العلاقة الزوجية تختلف عن سائر المعاملات، فهي لا تتمحور في حق مالي وشبهه يكون مُستحقاً لأحدهما على الآخر، بل هي علاقة متداخلة في الحقوق والمشاعر والعيش المشترك. وبالتالي، فلا مفرّ من أنّ كلّ حكم متصل بتدبير تلك العلاقة فهو لا محالة ينعكس على كلا الطرفين، حتى لو كان المقصود به تقييد حق أحدهما.