بقلم : محمد محفوظ - القطيف
منذ صدمة الغرب والحضارة الحديثة ، والعرب مجتمع وسياسة واقتصاد يعانون الثنائية في كل شيء ، بين طرف يدفع بكل الأمور والقضايا ، تجاه الارتباط الهيكلي والتام بالنموذج الجديد للحداثة والحضارة ، وطرف آخر ، يريد للواقع العربي فيما هو عليه ، والانكفاء عن الاستجابة ( بصرف النظر عن نوعية الاستجابة ) لتحديات الواقع والظرف الجديد .
واستمرت هذه المماحكة والصراع ، عبر تاريخ العرب الحديث ، واتخذت صيغا مختلفة ، وتطور مضمونها وآليات عملها في الساحة العربية ، إلا أن مبتدأها واحد ، وهو كيف نوفق بين ضرورات مختلفة ( تصل في أحايين كثيرة إلى حد التناقض والتصادم ) يحتاجها العالم العربي ، ولا يمكن أن يستغني عن أحد هذه الضرورات ، فهو لا يمكنه الاستغناء عن معاصرته ومواكبته إلى تطورات العلم والمنجز الإنساني الحديث ، كما أنه في ذات الوقت ، لا يمكنه أن يتواصل مع هذا العلم والمنجز وهو فاقد لذاته العقدية والثقافية ، لأنه سيتحول إلى لاهث بلا بوصلة ، وطامح بلا إمكانات اجتماعية وذاتية ، لتحقيق هذا الطموح .
فتاريخنا العربي الحديث ، هو عبارة عن مدافعة مستمرة بين هذه الأطراف ، والقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمثلها ، فتعددت آليات المدافعة وعناوين الصراع ، إلا أن الجوهر والمضمون الأول واحد .
وكما يبدو أن هناك خيطا دقيقا ، يفصل بين منهج التوفيق المتبع عند العديد من المدارس الفلسفية والفكرية والسياسية ، وبين التلفيق الذي هو عبارة عن صناعة نظرية أو مقولة قائمة في بنيانها على طيف فكري أو سياسي متنوع ، دون ملاحظة الصلة الجوهرية ، التي تربط بين عناصر هذا الطيف .
فالتلفيقية ، تأجيل للصراعات وتجميد لآلياتها ، وتجاوز واع للمتناقضات الفكرية أو السياسية .
أما التوفيقية التي أن توفرت شروطها الذاتية والموضوعية ، والتي سنأتي على ذكرها في مكان آخر ، هي وسيلة من وسائل تنظيم الصراعات ، دون إلغائها ، وتوجيه عوامل الصراع في تجاه بنائي ، لا العمل على كبتها .
والتعريف الذي يطرحه الدكتور ( محمد جابر الأنصاري ) في كتابه الموسوم ب " الفكر العربي وصراع الأضداد " عن الجدلية والتوفيقية ، يؤكد لنا أن مضمون المصطلح الأخير ، هو ما نقصده بالتلفيق .
ولعل في التوفيقية الواعية ، هو ما يقصده الدكتور الأنصاري بمضمون التعددية ، إذ يقول : وحتى من وجهة جدلية ( ديالكتيكية ) فإن صراع الأضداد لا بد وأن ينتهي إلى مندمج جديد في نهاية العملية الجدلية القائمة ( إذا لم يتم تجميد الجدل بفعل عوامل خارجية أو داخلية قسرية كما يحدث غالبا في المنطقة العربية ) ، والفارق بين التوفيقية ( التوحيدية ) والجدلية ( التعددية) ، أن الأولى تعمد في توليفتها إلى التقريب بين الأضداد بتجاوز عوامل الصراع وجوانب التناقض ، وكبتها . ثم البحث عن مواضع الاتفاق ما أمكن . أما الثانية فأنها تتطلب المرور داخل نفق الاصطراع ذاته إلى أن يتولد المندمج الجديد بعد أن يأخذ الصراع مداه ، ويتولد من الضدين شيء جديد يختلف عنهما معا ، ولا يمثل توليفة يتجاوران ويتقاربان فيها لبعض الوقت كما حدث في الصيغ التوفيقية التي شهدتها المنطقة العربية فيما عرف بالاتجاه القومي الوسطي بروافده المتعددة .
والصراع الذي يشهده العالم العربي ، اليوم بين القوى الأصولية ،والقوى العلمانية ، لا يرجع في جوهره النظري والفكري ، إلى فشل محاولات التوفيق التاريخية بين هذه القوى ، وإنما يرجع إلى العديد من العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية ( لسنا هنا في صدد بيانها ) .
إلا أنه من المستبعد القبول بمنظور فشل صيغ التوفيق المستخدمة في التاريخ العربي ، هو الذي أدى إلى بروز هذا الصراع من جديد .
وانشغال الفكر العربي الحديث ، بثنائيات العقل والإيمان ، العلم والدين والتراث والمعاصرة ، الدين والقومية ، القومية والقطرية ، العدل والحرية ، الرأسمالية والاشتراكية ، الشرق والغرب ، القديم والجديد .... إلخ . فإنه يرجع إلى العوامل التالية :
1-الفوضى المنهجية السائدة في الوسط الفكري العربي ، إذ أنه منذ الصدمة الحضارية الحديثة ، وهو يكرر هذه المقولات والثنائيات ، ليس بحثا عن توفيقية راشدة ، تؤهله من الاستفادة من المنجز الإنساني الحديث .
وإنما هذا التكرار المميت ، هو بفعل غياب المنهجية النظرية الواضحة ، التي تجيب على اسئلة الواقع العربي الراهن ، وتخرج من اسار هذه الثنائيات .
فالمجتمع الذي لا يمتلك منهجية واضحة ، للتعاطي مع واقعه وقضاياه ، فإنه سينشغل في قضايا وأمور ، أقل ما يقال عنها أنها ليست ذات أولوية في مسيرة المجتمع .
2- وإن المجتمع حينما يعجز عن الوصول إلى حل ناجع لمشاكله ، فإنه يبحث في ثنائيات نظرية ، يقيم بينهما التعارض ، وينشغل في فك اللغز الذي صنعه بنفسه .
فالتناقض بين ثنائية الدين والقومية ، لم تكن موجودة إلا في ذهن النخبة التي ضخمت هذه المشكلة في ظروف معينة ، وأخذت تكتب وتصيغ الحلول والمعالجات لهذا التناقض الموهوم .
كما أن المواطن العربي العادي ، لم يشعر في أي يوم من الأيام ، بتناقض بين قوميته وقطريته ، بين عروبته ووطنيته ، فعجز النخبة عن معالجة إشكاليات الواقع الحقيقية ، هو الذي دفعها إلى التعاطي مع هذه العناوين ، وكأنها عناوين متناقضة مع بعضه البعض ، لا يمكن الجمع بينهما ، وإنما لا بد من المقايضة بين هذه العناوين . وهنا توزعت القوى الاجتماعية وانفرزت اعتمادا على اختياراتها الآنفة .
وهذا بطبيعة الحال ، لا ينفي أن في بعض الفترات التاريخية ، كان الواقع لااجتماعي العربي ، يبحث عن صيغة للتوفيق بين هذه العناوين .
ولكن هذا لا يدفعنا للقبول المطلق ، بمقولة أن انشغال الفكر العربي الحديث ، هو من أجل التوفيق بين هذه العناوين لأن مقتضى التناقض بين هذه العناوين ،هو دفع الجمهور ، إلى الفرز والمقايضة بين هذه العناوين لا التوفيق بينها .
3- عدم الوعي بأوليات الواقع .. إذ أن غياب هذا الوعي ، هو الذي يدخل الساحة في صراعات وانشغالات ليست ذات أولوية . فالمجتمع الذي يعاني من التخلف الشامل ، ولا يدرك أوليات العمل للنهوض بالواقع ، ودحر أسباب التخلف ، هو الذي يصنع واقعا اجتماعيا وثقافيا ، لا ينشغل بأوليات أموره ،وإنما يبذل جل جهده وطاقته ، في أمور وقضايا ليست ذات أولوية لمعالجة مشاكله ، وتجاوز صعابه . فالتلفيقية هي الظاهرة التي ينبغي تشخيصها في الواقع العربي ، لأنها تشكل أخطر نزعة فكرية ، وسمت الفكر العربي بطابعها ، الأمر الذي يتطلب فهما متعمق لها ، ولأسباب انتشارها وتأثيرها البالغ في مجمل الحياة العربية .
وإن تجاوز هذه المعضلة ، لا يتحقق عن طريق التكيف مع التخلف ومفاعليه المختلفة ، لأن هذا التكيف ، يعيد إنتاج التخلف تحت مسميات ويافطات جديدة .
كما أن التجاوز لا يتم عن طريق الاستنساخ الحرفي لنمط الغرب وعقلانيته ، التي حاول ولا يزال أن يعطيها بعدا معياريا ، بحيث تكون هي المساوقة إلى العقل .
إننا نرى أن تجاوز الأزمة يتم عن طريق : إعادة صياغة الإنسان والجماعة العربية والإسلامية وفق القيم العليا الخالدة ، متجاوزين كل رواسب الانحطاط والتخلف .
والتجاوز هنا لا يعني عدم الاستفادة من الفهم البشري للقيم الكبرى ، ولكنه يعني أن لا نجعل هذا الفهم سقفا نهائيا لتداعيات القيم الكبرى أو الصيغة العملية ، الوحيدة لترجمة تلك القيم إلى برامج ووقائع إنسانية. وإن صياغة الإنسان والمجتمع ، وفق القيم العليا ، هو الذي يؤسس لحضور الإنسان في الحياة .
لأن الغياب الطوعي أو القسري للإنسان والجماعة عن شؤونها ومصيرها ومستقبلها ، هو العقبة الأساسية التي تحول دون تجاوز إنساننا العربي والإسلامي لمعضلاته الجوهرية .
ولا شك أن صياغة عقليته وفكره من جديد ، هو الذي يدفعه إلى الحضور الاجتماعي والثقافي ، بحيث أنه يتحول إلى طاقة خلاقة في سبيل تجاوز الأزمات ، وتحقيق الغد الأفضل .
ولا بد من القول في هذا المجال أيضا ، أن صياغة الإنسان العربي والمسلم ، وفق قيمه الإسلامية الكبرى ، سيوفر عناصر ضرورية لصناعة التاريخ وهي :
1- علاقة واعية وراشدة مع التاريخ ، بحيث لا يتحول التاريخ إلى سجن يحبس الإنسان نفسه فيه . وإنما هو وعاء يحتضن التجربة العربية والإسلامية عبر التاريخ المديد .
والعلاقة الراشدة مع هذه التجربة ، هي التي تجعل إنسان الحاضر ، يستفيد الاستفادة القصوى من حركة التاريخ وتجاربه .
2- علاقة حضور وشهود على الواقع والحاضر ، بدل الهروب والانسحاب من شؤون الراهن وقضاياه.
فإزالة عناصر التخلف في نظرتنا إلى تاريخنا وراهننا ،لا تتأتى إلا بتغيير ثقافتنا تجاهها . فلا يعقل لمن يمتلك ثقافة سببية أن ينظر إلى التاريخ مجموعة حوادث خارقة ، كما أنه لا يمكن لمن يمتلك ثقافة مسؤولة ، أن يبتعد عن شؤون راهنه ، ويهرب من تحديد موقف واضح من أموره ومسائله .
لهذا فإن تغيير ثقافة الإنسان ، ونظرته إلى نفسه ، وإعادة الثقة إلى ذاته ، وإنها قادرة على إنهاء واقع التخلف وتجاوز الصعاب ، هي القاعدة الضرورية لخلق الوعي الرشيد غي علاقتنا وتاريخنا ، والالتزام بموقف مسؤول تجاه الراهن الذي يعيشه .