بقلم : عبد النبي الشعلة
في زيارتي الأخيرة للهند وجدت مرة أخرى أن مشاعر التقدير والإكبار لرؤى ومبادرات صاحب الجلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة، حفظه الله ورعاه، الهادفة إلى تعزيز قيم السلام والتعددية والتعايش والتسامح تتردد بين المتابعين والمهتمين والمعنيين بهذه القضايا والقيم الذين التقيتهم في هذه الزيارة، إن جميعهم يدركون أن مبادرات جلالته تسعى إلى تعميق القناعة والالتزام بهذه القيم ودعم وتشجيع الأنشطة والإسهامات والإنجازات في مجالات التقارب والحوار بين جميع المعتقدات والأديان والحضارات بما يؤدي إلى خلق الظروف المواتية لتحقيق العيش المشترك في ظل الأخوة الإنسانية بين الشعوب والأمم.
والهند، دون منازع، تعد بؤرة تجمع وبوتقة انصهار لمختلف بل لكافة الديانات والمذاهب والمعتقدات التي عرفتها الإنسانية منذ فجر التاريخ، فقد كانت ولا تزال تحتضن كل المكونات البشرية المنتمية إلى كل تلك الأطياف العقائدية على مختلف اتجاهاتها، وكانت مسقط رأس الهندوسية بكل تفرعاتها وتجلياتها بما في ذلك الديانة أو الطريقة البوذية والسيخية، فأصبح أتباع الهندوسية بالنتيجة يشكلون الأكثرية المطلقة للسكان، ودخلت إلى الهند من أوسع الأبواب، وبجرعات متفرقة، اليهودية والمسيحية والزرادشتية، ومنذ أيامه الأولى بدأ الإسلام يزحف ويتدفق على المجتمعات الهندية من جنوب البلاد ومن شمالها، فصار الهنود “يدخلون في دين الله أفواجا” إلى أن أصبح المسلمون يشكلون ثاني أكبر المكونات السكانية فيها وتمكنوا من حكمها لثمانية قرون حتى أزاحهم الاستعمار البريطاني عن سدة الحكم في العام 1858م. إلى جانب ذلك أصبحت الهند الملاذ الآمن لمختلف المذاهب والطوائف والمدارس الفكرية الإسلامية التي لم تجد مكانا لها في الأوساط العربية ومن بينها الفرقة أو الطائفة المعروفة اليوم بـ “طائفة البهرة الداوودية الإسلامية”.
ويرجع البهرة نسبهم وتراثهم إلى الخلفاء أو الأئمة الفاطميين الذين ينحدرون بدورهم من نسل محمد بن إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق، وقد تأسست الدولة الفاطمية في شمال أفريقيا في العام 912م على يد الإمام عبيدالله المهدي بالله الذي يعتبره الإسماعيليون إمامهم الحادي عشر؛ وهذا السرد أيده المقريزي وابن خلدون وغيرهما من المؤرخين.
ومن بين الطلاب الذين تكونت بيني وبينهم علاقة صداقة حميمة أثناء دراستي الجامعية، في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، في كلية القديس زيفير التابعة لجامعة مومباي طالب هندي مسلم اسمه حذيفة، وابن عمه مدريكة، حذيفة تعرض إلى نوبة قلبية انتقل على أثرها إلى رحمة الله تعالى قبل أكثر من عشر سنوات، وقد كان أحد أنجال فضيلة الدكتور المرحوم محمد برهان الدين، الذي كان وقتها سلطان طائفة البهرة أو زعيمهم الروحي، ومنذ ذلك الوقت وأنا على اتصال وتواصل بعدد من وجوه هذه الفرقة، وأسعى إلى معرفة المزيد عنها وعن تاريخها وتراثها ومعتقداتها.
والبهرة باختصار هم أتباع واحدة من الفرق الإسلامية، إنهم مسلمون، نعم إنهم مسلمون مسالمون؛ يوحدون الله وينطقون بالشهادتين، ومثل باقي المسلمين فإنهم ينادون ويرددون بأعلى أصواتهم في كل الأوقات “أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله”، ويؤدون الصلوات الخمس اليومية في أوقاتها جاعلين الكعبة المشرفة قبلتهم، ويصومون شهر رمضان، ويقدسون القرآن الكريم، ويحجون إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة ويزكون، وكما تختلف الفرق والمذاهب الإسلامية عن بعضها البعض في الكثير أو القليل من الجوانب، فإن البهرة قد يختلفون عن باقي المذاهب والفرق الإسلامية في بعض الفروع والتفاصيل؛ ولذلك كله فإنهم مسلمون بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ ودلالات على الرغم من ما يروج له دعاة التكفير والتفرقة بين المسلمين بمختلف مذاهبهم وطوائفهم ومدارسهم الفكرية، في الوقت الذي نحن، معشر المسلمين، في أمسِّ الحاجة إلى توحيد كلمتنا ورص صفوفنا والتخلي عن كل ما يفرقنا ويشتتنا والتشبث والتركيز على كل ما يجمعنا ويلم شملنا.
وفي زيارتي الأخيرة لمدينة مومباي كنت أتطلع إلى لقاء فضيلة السلطان الدكتور مفضل سيف الدين الرئيس الحالي لطائفة البهرة، لكنه لم يكن متواجدًا في تلك الفترة، فزرت مبنى “بدري محل” المركز الرئيس العالمي لقيادة طائفة البهرة الواقع في مدينة مومباي، وهذا المبنى بالنسبة للبهرة، على الرغم من فارق الحجم، كما “الفاتيكان” بالنسبة للمسيحيين الكاثوليك، أو مقر “الأزهر الشريف” بالنسبة للمسلمين السنة، وقد استقبلني فيه الأمير “القائد جوهر عز الدين”، الشقيق الأكبر للسلطان مفضل، وقد سمي بـ “القائد جوهر” تيمنًا باسم القائد الفاطمي جوهر بن عبدالله المشهور بـ “جوهر الصقلي” الذي قاد جيوش الفاطميين وفتح أو استولى على مصر بعد أن هزم الاخشيديين وأسقط دولتهم في العام 969م، وبأمر من الخليفة الفاطمي المعز لدين الله أسس جوهر الصقلي في العام التالي مدينة القاهرة وشرع في بناء “الجامع الأزهر” الذي صار وبقي حتى اليوم من أهم وأشهر المساجد في مصر والعالم الإسلامي، وهو جامع وجامعة منذ أكثر من ألف سنة. وأصبحت مصر بعد دخول الفاطميين اليها المركز الروحي والثقافي والسياسي للدولة الفاطمية، وبقيت كذلك لنحو 261 عامًا حتى انهيارها في العام 1171م على يد صلاح الدين الأيوبي.
وقد تمكنت مجموعة من فلول الفاطميين من النجاة والفرار من القاهرة؛ من بينهم جماعة تمكنت من الذهاب إلى اليمن ثم إلى الهند، هذه الجماعة تخلت بعد وصولها للهند عن دورها وتطلعها وطموحها السياسي وتوجهت وركزت جهودها على الأنشطة التجارية، ولذلك سموا بـ “البهرة” أي “التجار” باللغة الهندية.
والبهرة إليوم يعتبرون من بين أصغر الطوائف أو الفرق الإسلامية؛ إذ يبلغ عددهم أكثر بقليل من مليون شخص، يعيش غالبيتهم العظمى في وطنهم الهند التي يكنون لها خالص الولاء، لكنهم لا يسعون إلى الانخراط في أي عمل سياسي فيها، ولم يكونوا طرفًا في الدعوة إلى إقامة دولة خاصة بالمسلمين والانفصال عن الهند بعد استقلالها في العام 1947م، ويهتم قادتهم برعايتهم وتوجيههم فأصبح كل واحد منهم دون استثناء ملتزمًا بقيم السلم والتعايش والتسامح وعدم تكفير الغير أو التدخل في الشؤون السياسية للدول التي تستضيفهم أو غيرها، ولم يتورط أي منهم في أي عمل إرهابي أو أي شكل من أشكال العنف السياسي؛ ولذلك كله أصبح قادتهم يتمتعون بصداقة وثقة واحترام قادة العالم السياسيين.
وللبهرة إسهامات إيجابية وإنجازات واسعة على صعيد نشر العلم وتأسيس الجامعات والمستشفيات والمجمعات السكنية والمرافق الثقافية والحضارية واهتمام عميق وبكل سخاء بالتراث وبالمحافظة على المعالم التراثية والتاريخية وترميمها، وأتمنى أن تتاح لي الفرصة لاستعراض هذه الإسهامات والإنجازات في وقفة أخرى.