بقلم محمود القصاب
في صباح يوم الأثنين الماضي (٢٥ نوفمبر) وبينما كنت خارج البحرين برفقة عدد من الأصدقاء تلقينا النبأ المحزن بوفاة أخينا وصديقنا وحبيبنا الغالي الاستاذ رسول الجشي أبو"غسان" وما ضاعف من حزننا وألمنا هو عدم مشاركتنا في مراسيم التشييع وعدم تمكننا من حضور العزاء…
وهكذا يشاء الباري عز وجل ان يفارقنا ويرحل عنا أخٌ كريمٌ وصديقٌ عزيزٌ عذبٌ، تاركاً في القلب حزناً وألماً ، وفي الوجدان ذكرى أنه "أبو غسان" فارس يطوي رايته ويسلم روحه لخالقها بعد حياة حافلة بالعطاء والنضال والسيرة العطرة.
برحيل الفقيد فقدت البحرين وفقدنا نحن معها قامة وطنية عروبية أصيله، كان الراحل العزيز عنوان مرحلة وصوت قضية، ونبض جيل كامل عمل وتحمل مسؤولية تعزيز الهوية والوحدة الوطنية في مواجهة كل العصبيات والنزعات الطائفية، هذه اللوثة التي كان الفقيد رحمه الله يرى فيها سبباً رئيسياً وراء إعاقة قيم المواطنة وغياب مبادىء العدالة والمساواة بين المواطنين، ومسيرته الوطنية شاهداً على ذلك.
الأستاذ رسول الجشي تلك الشخصية الوطنية التي تمثل امتدادً لأحد البيوتات والعوائل الأصلية والعريقة التي أمتهنت التجارة المقرونة بالعلم والمعرفة والثقافة.
لقد عشنا وعملنا مع الفقيد العزيز مشوار طويل أدركنا خلاله عمق وعيه السياسي وحسه الوطني والقومي، وكيف مزج هذا الإنسان طموحاته الخاصة بهموم وطنه وشعبه، وكيف كان مسكوناً بقضايا أمته العربية خاصة قضية فلسطين التي آمن بعدالتها وبحق شعبها في المقاومة والتحرير وتقرير المصير، مجسداً بذلك العلاقة التكاملية الوثيقة بين النضال الوطني والقومي و النضال الاجتماعي.
فقد كان رحمه الله صاحب مواقف ثابتة تنطلق من قناعات راسخة، ومن عرف " أبو غسان" عن قرب ادرك انه شخصية وطنية نقية تتجسد فيها كل معاني الود والطيبة والتواضع والخلق الرفيع، إلى جانب ما يتسم به من علم وثقافة والتزام وطني صادق.
قبل أن أعرف فقيدنا الغالي معرفة شخصية، وقبل ان تتوطد العلاقة والصداقة معه، كنا نعرف ونسمع عنه لأنه ينحدر من عائلة كريمة أصيلة معروفة على مستوى البحرين والمنطقة والحي الذي كنا نسكنه معاً (المخارقة) الفريق الذي يحمل التاريخ إلى جانب ما يحمله من ذكريات وحكايات، أما أول معرفة عن قرب كان ذلك يوم جرى تداول أسمه كأحد المرشحين لخوض سباق الانتخابات نحو اول مجلس وطني (البرلمان) عام ١٩٧٣ وقبله المجلس التأسيسي، وقتها كنا للتو نضع أقدامنا على أعتاب الدراسة في بغداد المجد والعروبة، وكان وعينا السياسي والوطني في بداية تكونه، وعرفنا آنذاك ان البرلمان يتنافس فيه مرشحون لهم وزنهم الوطني والسياسي وكان الفقيد يمثل طيفاً مهماً من القوى والفعاليات الوطنية الملتزمة والمؤمنة بالديمقراطية والحرية والاستقلال والرافضة للتبعية والهيمنة الاستعمارية، كان ذلك قبل ان يتم وأد تلك التجربة وحل ذلك البرلمان عام ١٩٧٥ في خطوة وصفها الفقيد بأنها نهاية المسار الديمقراطي الذي كان يتطلع إليه شعبنا وبداية مسار حفر الأزمات التي توالت بعد ذلك على البلاد وراحت تقضم وتلتهم من رصيد استقراره وازدهاره.
لقد كان " أبو غسان" رحمه الله يتعاطى العمل السياسي ليس من أجل اغراض خاصة أو مصالح شخصية، ولم تكن تنقصه الوجاهه او الجاه حتى يبحث عنهما في هذا المعترك ؟؟ فقد كان رحمه الله عزيز النفس عالي الكرامة، وكان نظيف الكف ونقي الروح ذو شخصية حصينة عصية على الاغراء أو الشراء، كما كان صاحب رؤية سياسية وطنية تتسم بالموضوعية والعقلانية والمواقف المتزنة بعيداً عن اية " شعارات" لا تنسجم مع واقعنا السياسي ولم يكن يؤمن بالمقاربات التي لا تخدم العمل السياسي الوطني، وكان يقف بالمرصاد من كل الصراعات والخلافات السياسية عديمة الجدوى التي يرى فيها مزيداً من ضياع الفرص وزيادة أجواء الشحن والاستقطاب دون فائدة، لذلك كنا نراه وسط معمعة وصخب السياسة هادئاً مليئاً بالثقة والسكينة والطمأنينة.
ان الحديث عن شخصية الراحل العزيز "أبا غسان" وعن مواقفه الوطنية والقومية هو في الواقع توثيق لجزء هام من حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، وتتجسد هذه الحقيقة بشكل واضح وبارز في قيادته لمسيرة نادي العروبة في فترات ومحطات مهمة من تاريخ هذا النادي العريق، ومساهمة الفقيد في تعزيز دوره الثقافي والوطني لانه كان يؤمن بقوة وفاعلية الثقافة وقدرتها على تحقيق النهوض الشامل في كل المجالات، إلى جانب انشغاله بالقضايا الوطنية والاندماج في العمل السياسي الوطني من خلال تصدره لقيادة التجمع القومي الديمقراطي عندما كان أميناً عاماً لهذه الجمعية الوطنية ورئيساً للهيئة الاستشارية فيها لعدة سنوات في ظل المتغيرات والتطورات السياسية التي عاشتها البحرين منذ عام ٢٠٠٠ وصدور ميثاق العمل الوطني وتسارع الخطوات السياسية الإصلاحية.
نم قرير العين أيها العزيز فأمثالك لا يغيبهم الموت..
وستبقى ذكراك حية في قلوبنا ووجداننا..
نسأل الله تعالى ان يتغمدك برحمته الواسعة ويسكنك فسيح جناته..
خالص العزاء والمواساة إلى عائلة الجشي الكرام ولزوجته الفاضلة الاخت العزيزة باسمة زبر وإلى أولاده واخوانه وأصدقاءه وكل محبيه وهم كثر في داخل البحرين وخارجها.
(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) صدق الله العظيم
إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ