DELMON POST LOGO

البحرين وعُمان وجذور التفاعل الحضاري والتاريخي

بقلم : عبد النبي الشعلة

كان الأشقاء العمانيون يستعدون للاحتفال بعيدهم الوطني الرابع والخمسين، عندما كنت في زيارة لمسقط بسلطنة عمان الشقيقة في الأسبوع الأول من الشهر الماضي؛ فذكرى العيد الوطني العماني تحل في الثامن عشر من شهر نوفمبر من كل عام.

وعندما عدت إلى البحرين وجدت البحرينيين، في التاريخ نفسه، يشاركون أشقاءهم العمانيين فرحتهم بهذه المناسبة، وكانت أبرز مظاهر المشاركة الحضور الكثيف الذي شهده حفل الاستقبال، الذي نظمته السفارة العمانية، واكتظ بكبار المسؤولين والشخصيات البارزة ووجهاء البلاد وأعيانها، وكل فئات وأطياف المجتمع البحريني، الذين تقاطروا للتهنئة، وللتعبير عن أطيب تمنياتهم لسلطنة عمان قيادة وشعبا.

إن الشعب العماني الشقيق، ودون أي مبالغة أو إطراء، معروف بطيب معشره، بتواضعه وتسامحه، بمحبته واحترامه للآخرين، بترحيبه وإكرامه للضيف، بأريحيته ورحابة صدره ودماثة خلقه، وبكل الطباع والسجايا الحميدة، إضافة إلى كل ذلك، فإن ثمة شعورا بالمحبة والمودة راسخا ومستقرا في عمق قلوب العمانيين تجاه البحرينيين، وثمة سلسلة من الذكريات المختلفة عالقة في أذهانهم وأفئدتهم نسجت وما تزال تنسج وشائج وأواصر العلاقات الأخوية الحميمة التي تربطهم بالبحرين أرضا وقيادة وشعبا، لقد أحسست ولمست ذلك الشعور بكل وضوح منذ أول زيارة قمت بها إلى سلطنة عمان قبل 50 عاما، وبالتحديد في العام 1974م، هذا الشعور يحس به ويأسر كل بحريني يزور عمان ويلتقي بأي من أشقائه العمانيين، سواء في عمان أو خارجها.

وكوني بحرينيا، فقد أسرني وسرّني أسلوب تعامل العمانيين معنا؛ الذي تميز بقمة التقدير والاحترام، ولا أبالغ إن قلت أدهشني؛ لأنني لم أكن في البداية مطلعا على عمق وطبيعة العلاقات التي تربطنا أو على التطورات والأحداث التاريخية التي ساهمت في صوغ ونسج وتشكيل وشائج العلاقات بين البلدين والشعبين الشقيقين.

ولاستكشاف عمق الصلات التاريخية المصيرية بين البحرين وعمان؛ سنكتفي بالوقوف وقفة خاطفة عند محطة واحدة فقط في تاريخنا الحديث، وبالتحديد عند أفول القرن السابع عشر وإطلالة القرن الثامن عشر وما بعده، عندما كان الصراع على النفوذ محتدمًا بين الأسر والقبائل العربية على ضفتي الخليج العربي، في ظل الأطماع التوسعية الفارسية والعثمانية، إلى جانب تداخل المصالح المحلية والإقليمية مع التدخلات الأجنبية من قوى استعمارية كبرى مثل بريطانيا والبرتغال؛ فكانت جزيرة البحرين بؤرة جذب واستقطاب لكل الطامحين والطامعين، فتناوبت على السيطرة عليها قوى مختلفة، مثل البرتغاليين الذين هيمنوا على الخليج العربي لفترة في القرن السادس عشر، والعثمانيين الذين حاولوا مد نفوذهم في المنطقة، إضافة إلى محاولات الفرس المتكررة لإخضاع البحرين لسيطرتهم.

إن أطماع وتهديدات البرتغاليين والصفويين والعثمانيين، كانت تشكل أخطر التحديات بالنسبة للبحرين سيادة وهوية وانتماء، وكان موقعها الاستراتيجي في غاية الأهمية بالنسبة للبرتغاليين كقاعدة لمراقبة الممرات البحرية وتأمين خطوط التجارة البحرية بين أوروبا والهند، وقد تمكنوا من السيطرة عليها لنحو 80 عامًا حتى العام 1602م، في ذلك العام بسط الصفويون سلطتهم على البحرين حتى العام 1717م حين تمكن العمانيون من هزيمتهم وإجلائهم عنها، وتولوا حكمها حتى العام 1738 عندما عاد الصفويون واحتلوها حتى العام 1783م.

وجاءت محاولات سيطرة العمانيين على البحرين جزءا من خطط توسعهم البحري في الخليج العربي، وإدراكا منهم للأهمية الاستراتيجية للسيطرة على الجزر.

لقد كانت السيطرة العمانية على البحرين قصيرة نسبيا، لكنها في غاية الأهمية، إذ جاءت في سياق الصراعات الإقليمية بين القوى المختلفة التي سعت للهيمنة على هذه الجزيرة، كما مهدت الطريق لإنهاء النفوذ الصفوي على البحرين بشكل قاطع ونهائي واستعادتها لهويتها وانتمائها العربي، حين تمكنت أسرة آل خليفة والقبائل العربية المتحالفة معها في العام 1783م من السيطرة عليها بقيادة الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة الملقب بـ “الفاتح”، الذي جعل البحرين تنعم وتتمتع بالأمان والاستقرار منذ ذلك التاريخ، بعد أن كانت تعاني من الفوضى وانعدام الأمن واضطراب الأوضاع.

وبكل تقدير ومودة وبروح الوفاء التي جبل عليها الأشقاء العمانيون، فإنهم يتذكرون عندما احتاج بعضهم لمغادرة عمان في مطلع ومنتصف القرن الماضي بحثًا عن مصدر للرزق، وقرروا التوجه إلى البحرين فاستقبلهم البحرينيون ورحبوا بهم وفتحوا لهم صدورهم وأبواب سوق العمل، وفي المقابل فإن البحرينيين يحتفظون بمشاعر التقدير والامتنان أيضًا للأشقاء العمانيين لما بذلوه من جهد مخلص ولعطائهم ومساهماتهم القيمة، التي مكنتنا من تحقيق وتنفيذ مشروعاتنا التنموية في ذلك الوقت، إنها أحاسيس صادقة نبيلة متبادلة وجميلة أيضًا.

والعمانيون، هذا الشعب المسالم الهادئ الوديع، هو سليل أبطال فاتحين ومحاربين أشاوس أشداء، ولأنهم متواضعون كما ذكرنا، فإنهم نادرا ما يتحدثون عن ماضيهم العريق ومكانتهم التاريخية البارزة ودورهم في تشكيل التاريخ الحديث للمنطقة، فحتى عهد قريب كانت عمان إمبراطورية أو دولة عظيمة، بلغت أوج عظمتها بعد أن تسلم البوسعيديون زمام الحكم فيها، فبرزت كإحدى القوى البحرية والتجارية الرائدة التي تحكّم أسطولها البحري في السيادة البحرية للمنطقة، وامتد نفوذها وحدودها من باكستان إلى الجزر والسواحل الشرقية للقارة الأفريقية، بما في ذلك جزيرة زنجبار، وذلك في فترة حكم السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي الذي كان يلقب بـ “أسد البحار” و “سلطان مسقط وعمان وظفار وجوادر”.

نعم، جوادر، ميناء بلوشستان، التي تقع اليوم ضمن حدود باكستان؛ كانت تحت السيادة العمانية وتتبع سلطتها لقرنين من الزمان منذ العام 1760م حتى العام 1958م عندما انتقلت سيادتها لباكستان، بموجب الاتفاق الذي رعته بريطانيا بين السلطان سعيد بن تيمور (والد السلطان الراحل قابوس) والرئيس الباكستاني وقتها الجنرال أيوب خان.

وجزيرة زنجبار الاستراتيجية كانت من أهم المناطق والجزر الإفريقية التي أصبحت تحت النفوذ والسيطرة والحكم العماني، إلى درجة أن السلطان سعيد بن سلطان قرر أن ينقل عاصمة الإمبراطورية إلى زنجبار في العام 1840م. ومن زنجبار أمر السلطان سعيد بأن تبحر السفينة العمانية “سلطانة” إلى سواحل الولايات المتحدة الأميركية، في خطوة جريئة ونظرة مستقبلية ثاقبة منه، وبهدف تأسيس علاقات دبلوماسية وتجارية مع الولايات المتحدة.

وبالفعل، وصلت “سلطانة” إلى ميناء نيويورك في شهر أبريل 1840م وعلى ظهرها أحمد بن النعمان الكعبي، الذي أصبح المبعوث المفوض لسلطنة عمان لدى الولايات المتحدة، وبذلك تكون عمان أول دولة عربية ترسل وفدا رسميا وتؤسّس علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة، وتكون (سلطانة) أول سفينة عربية ترسو على الشواطئ الأميركية.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن السلطان سعيد بن تيمور (والد السطان الراحل قابوس) قام بعد 92 عاما من تأسيس العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة بزيارة رسمية للعاصمة واشنطن في العام 1938م واستقبله في البيت الأبيض الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت؛ وبذلك يكون السلطان سعيد بن تيمور أول رئيس أو ملك أو سلطان عربي يزور الولايات المتحدة ويستقبله رئيسها في البيت الأبيض. إن هذه الحقائق والوقائع ساهمت في بلورة علاقات متينة خاصة بين سلطنة عمان والولايات المتحدة، وأصبح من أبرز معالمها انفراد سلطنة عمان دون سواها بكونها الدولة الوحيدة التي يتم الحرص والالتزام باستقبال سلطانها بروتوكوليا وشخصيا من قبل أي رئيس أميركي، في كل زيارة رسمية يقوم بها للولايات المتحدة.

إن المساحة المتاحة لنا على هذه الصفحة لا تسمح بمزيد من الاستطراد والطرح، رغم أهميته فننهي هذه الوقفة بتوجيه التحية إلى الشقيقة عمان قيادة وشعبا، في يوم عيدها الوطني وفي كل يوم، متمنين لهم اطراد التقدم والازدهار تحت قيادة السلطان هيثم بن طارق، حفظه الله ورعاه.