دراسة علمية مقارنة بين عناصر التفاوض السبع التي حددها المفاوض الأمريكي روجر فيشر وعناصر التفاوض 12 عند الأمام علي
أسس نظرية الحق والدولة قبل توماس هوبز ، وأسس الواقعية السياسية قبل مئات السنين من ميكافلي وكتابه الأمير
التفاوض حاجة بشرية منذ قديم الأزل ولن تنتهي هذه الحاجة أو تنتفي بل على العكس تزداد أهمية كلما نمت العلاقات بين الأفراد، والدول تشعبت سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي.
ويستمد التفاوض حتميته من كونه المخرج أو المنفذ الوحيد الممكن إستخدامه لمعالجة القضية التفاوضية والوصول إلى حل للمشكلة المتنازع بشأنها .
الكتاب الذي بين أيدينا ليس كتاباً دينياً، بل هو كتاب سياسي بامتياز ، أسقط فيه المؤلف " الدكتور صائب عريقات " الأمثلة والشواهد والأحداث كعينة جريئة لإثبات صحة نظريته.
فالكتاب بمثابة دراسة علمية مقارنة بين عناصر التفاوض السبع التي حددها المفاوض الأمريكي الشهير روجر فيشر (وهو دكتور بجامعة هارفورد الامريكية في ذات المجال ) وبين عناصر التفاوض الإثني عشر عند الأمام علي بن ابي طالب، التي أثبتها الدكتور صائب عريقات، وهي عبارة عن مقارنة بين السلوك التفاوضي الغربي والسلوك التفاوضي العربي – الإسلامي .
توفى عريقات في نوفمبر 2020 متأثراً بمرض الكورنا ، وصدر الكتاب بعد عامين من وفاته وقدمت له إبنته دلال قائلة : إن أفلاطونية صائب وتجاوزه للصغائر كانت مستوحاة من إعجابه بالامام علي، وسيجد القارئ أنه بحث بعمق تجربة الإمام علي ومواقفه المبدئية الحقة في مفاوضاته مع خصومه مستخدماً المثل العليا للإسلام.
فعريقات الذي سمى إبنه البكر " علي " ربى أولاده وبناته على أخلاق الإمام علي ، وحكمه كما قرأها وفهمها من نهج البلاغة ، وقد أثبت تفوقه ومدرسته التفاوضية على مدرسة هارفارد، وقد حاول تطبيق هذه العناصر الإثني عشر التي جاء بها الكتاب في مفاوضاته الطويلة مع الكيان الإسرائيلي الغاصب.
كان والدي " صائب " شديد الإعجاب بالإمام علي ، ولقد إطلع وبحث في بلاغته ، وإستلهم قواه من الموروث العميق ، فكان يلجأ لأقوال الإمام في حياته العملية والشخصية ، وفي بيته الصغير معنا ، إلى مكتبه إلى فريق عمله إلى تدبير شؤون البلاد ، كان حريصاً على الإلتزام بخصال الإمام وأخلاقه والصدق والعدل والصبر والمحبة .
فيما بدأ عريقات كتابه بالقول بأن الكتاب ليس مراجعة أحداث، بل إنه دراسة قرارات وتحليل إجراءات قام بها الإمام علي أو لم يقم بها ، وليس بهدف إظهار وجهة نظر على أخرى ، على الرغم أني لم أجد من يختلف في نسبه وشجاعته وقوة حجته وصواب مشورته وعبقرية رأيه ..
وتاريخه معروف فهو أول من دخل الإسلام من الصغار ، وهو صاحبُ حكمه ومعرفة وعفه وسداد رأي وعبقرية قول، رجل إقتصاد وسياسة، جمع بين حاجات الدنيا ومتطلبات الآخرة ، وحدد ركائز وأسس العلوم المختلفة ( علم النفس ، علم الاقتصاد، علم السياسة ، اتخاذ القرار ، إدارة الأزمات والمفاوضات ، أرسى أسس ومبادئ السيادة قبل أن يحددها جان بودان في كتبه الستة بعنوان الجمهورية بألف عام ) .
أسس نظرية الحق والدولة قبل توماس هوبز وكتاب لفيثان بمئات السنين ، أدرك كيف حدود الإسلام وعلاقة الإنسان بدولته وعلاقة الدولة بالدول الأخرى وأسس الواقعية السياسية قبل مئات السنين من وجود ميكافلي وكتابه الأمير .
أما معايير الخير وما يجب أن يكون ، والأخلاق والفضيلة ، فلقد حددها الإسلام والتزم بها الإمام علي قبل يوتوبيا توماس مور ، وقبل المدينة الفاضلة للفارابي بمئات السنين، " اذ إجتمعت لسيدنا أمير المؤمنين علي الهداية والحكمة والمعرفة والشجاعة والقوة الجسدية، جمع آداب الفروسية والنخوة والشرف والحق والسلام والحرب، فكان يلتزم بالحكم الشرعي في كل فعل وقول".
حسب عريقات، فان الكتاب ركز على سلوك الإمام علي التفاوضي بصفته صحابي يلتزم بالأحكام الشرعية كأساس راسخ في حياته وسلوكه وأفعاله ، لاسيما أنه صاحب قرار ملتزم بالحكم الشرعي ، حاسماً كما تصرف على النحو الذي تصرف في :
1- عزل معاوية بين أبي سفيان من ولاية الشام
2- في طلب تسليم قتلة عثمان بن عفان
3- في معاملة طلحة بين عبدالله والزبير بن العوام
4- في قبول التحكيم .
الكتاب يحاول تحديد عناصر المفاوضات عند الإمام علي ومقارنتها مع عناصر الفكر الغربي في المفاوضات والتي كتبت بعد حوالي 1300 عام من وفاة الرسول .
في الفكر السياسي هناك روابط الأخلاق والسياسة بفكر توماس مور ومؤلفه اليوتوبيا ، فقد كان الفكر السياسي عند الإمام علي سابقاً لمور بمئات السنين ؟
والإمام علي سبق ميكافلي في الواقعية السياسية ، وسبق توماس هوبز في فهم علاقة الدولة بالناس ، وسبق جان بودان في تحديد مفهوم السيادة بوضوح ، وسبق جان لوك في مجال العقد الاجتماعي ومونتسيكو في الفصل بين السلطات والدساتير والحريات، وسبق فولتير وجان جاك روسو في تحديد العقد بين السلطة والفرد ومفهوم الدستور والحريات على أساس الدستور .
بيَن المؤلف من خلال حِكم وأقوال الإمام علي العناصر التي حددها للمفاوضات والتي بلغت 12 عنصراً أي بزيادة خمسة عناصر عن العناصر السبعة للمدرسة الغربية ولاسيما روجر فيشر ، وذلك من خلال خطب الإمام علي ورسائله وأقواله ، والقضايا المتعلقة بالدولة / الواقعية السياسية / بالسيادة / بصناعة القرار وعلم النفس / وبالعقود بين الناس والحكام وللدساتير .
الكاتب شهد الإنحطاط العربي والإسلامي، عاش حروب دول العرب في ليبيا والعراق واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين وغزة تحديداً التي إنقسمت عن باقي الأراضي الفلسطينية ، كما عاصر وشارك في مفاوضات العرب مع (إسرائيل) ، وهو صاحب درجة دكتوراه في دراسات السلام .
ويقول قرأت كثيراً عن المفاوضات بأنواعها ، تلك القراءات قادتني للتعرف إلى ما قدمه إنسان عربي واحد لعلم المفاوضات بشتى أنواعه ، وما قدمه في مجال الواقعية السياسية والعلاقة بين القوة والضعف ، بين الظلم والعدالة ، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون ، هذا الإنسان العربي الذي حدد مفاهيم الدولة والعهود والمواثيق وقال للمظلوم والضعيف : إن قوته تكون بالتمسك بحقوقه وليس بالتنازل عنها ، انه الامام علي .!!
وحقيقة، على الرغم من كل الضعف العربي ، والإنحطاط وعدم إستخدام لغة المصالح والإحتلال والحروب الداخلية والإنقسامات والإنقلابات والإنشقاقات ، كان الإمام علي معي كان قوتي وعزتي وعلمي وفخري وصبري ونضالي ومقاومتي وإستمرار ي وبقائي واولادي والممسك بي حتى القدس الشريف.
وشرح الكاتب ، العناصر التفاوضية السبعة في المدارس الغربية في الجزء الأول ، وفي الجزء الثاني قدم العناصر التفاوضية في مدرسة الإمام علي والتي إستمدها من الرسول (ص) مباشرة.
إن العناصر السبعة في فكر روجر فيش وجامعة هارفرد وفي كل كليات دراسات السلام في الدول الغربية حاضرة ولا يمكن القليل من أهميتها في أي مفاوضات مهما كان نوعها ، والسؤال هل هي اكتشاف جديد قام به روجر وجامعته ؟
والعناصر السبعة التي إعتمدها روجر فيش تتمثل في :
1- المصالح
2- الشرعية
3- الاتصال
4- العلاقات
5- الالتزم
6- الخيارات
7- البدائل .
والعناصر الخمسة التي اعتمداها ميري وبارنيت تتمثل في :
1- البدائل
2- المشكلة
3- القضية
4- الطريقة
5- تجاهك او دليلك
وهم مكان أهمية لقواعد أي مفاوضات ،،،
لكن الإمام علي كان قد أرسى 12 عنصراً ( أي العناصر السبعة يضاف إليها خمسة أخرى ) قبل 1400 سنة وهي مكان الدراسة في هذا الكتاب .
العناصر التفاوضية في مدرسة الرسول الأعظم
تمثلت قواعد وأصول المفاوضات عند الإمام علي بآيات القران والأحاديث النبوية وأول آية إستشهد بها الإمام علي ..
" لا اكراه في الدين "
"إدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"
"وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين "
" لا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن "
" إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه " .
تعلم الإمام علي من رسوله بأن لا يجادل من أجل الغلبه التي تسعى لتضخيم الذات والأناء .
السلوك التفاوضي لكفار قريش
مثال : عتبة بن ربيعة
عقد كفار قريش إجتماعاً على مستوى زعماء مكة ، حيث تقدم عتبة بن ربيعة وقال : يا معشر قريش ، إلا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمور لعله يقبل بعضها فنعطية أيها شاء ويكف عنا، فقالوا له يا أبا وليد قم إليه فكلمه .
فجالس الرسول الأعظم وقال له : يا بن أخي إنك منا قد علمت من السلطة (المكانة) في العشيرة والمكانية في النسب ، وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم ، فإسمع مني أعرض عليك أمور لتنظر فيها لعلك تقبل بعضها فقال الرسول والإمام علي حاضر بينهما : قل.
كان الهدف من رفع قدر الرسول بقصد إحراجه وتحميله مسؤوليات جسام في حالٍ رفض العرض، وهو سلوك تفاوضي يتعلق بالإملاءات وليس المفاوضات، إننا نقر بمكانتك وعلو شأنك ولكن إستمرارك بما تقوم به جريمة كبرى تفرقنا وتسفهنا.
ثم يضيف عتبه : إن كنت تريد بهذا الأمر مالاً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا فلا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رؤيا تراه لا نستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ .
لقد سمع الإمام علي عروض كفار قريش ، العرض المبطن بالتهديد في حال الرفض .. ماذا كان رد الرسول ؟
قال : أفرغت يا أبا وليد ؟ قال نعم ، قال : فاسمع مني.
لم يغضب الرسول ، لم يفقد أعصابه ، لم يهاجم عتبه بن ربيعة ، لم يطرده ، لم يعنفه ، بل أن الرسول وبكل أدب ساله إن كان قد إنتهى من كلامه ، وقال له بإحترام شديد يا أبا وليد ، إسمع مني : وتلى عليه آية من آيات القرأن (الشرعية ).. وفشلت المفاوضات لاختلاف المنظومتين .
والمرحلة الثانية من المفاوضات هي عرض كفار قريش اقتسام الشرعية حيث عرضوا : "نتفق على عبادة آلهتنا وأنت تعبُد إلاهك " ، وكان الجواب : قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين .
المرحلة الثالثة من المفاوضات ، إذ أرسلوا وفداً مكوناً من عبدالله بن أمية ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص والعاص بن عامر ، وكان المطلب هذه المرة أقل ، أن يلغي من كتاب الله ما يغيظهم من سب آلهتهم والتعرض لها .. كان رد الرسول بآية : إن أتبع إلا ما يوحى إلي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .
المرحلة الرابعة من المفاوضات من جانب واحد ، حيث طلبوا من الرسول تحقيق المعجزات .
مثال آخر في المفاوضات مع الرسول .. صلح الحديبية ، وفي هذه المرة اوكل الرسول محمد الى الإمام علي كتابة الإتفاق وقال له اكتب يا علي :
بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال مفاوض قريش سهيل بن عمرو ، والله لا ندري ما الرحمن ، فإكتب ما كنت تكتبه من قبل : اكتب بإسمك أللهم ، فرفض الإمام علي مسحها ، فمحاها الرسول ، ثم قال لعلي اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ، لكن سهيل بن عمرو رد قائلا : لو شهدت بأنك رسول الله لما قاتلتك ، ولكن اكتب اسمك وأسم أبيك ، فقال الرسول لعلي ، ان يمسحها ، فرض الإمام علي فمحاها الرسول .. وتم الاتفاق .
الرسول في من خلال اتفاق الحديبية ركز على المضمون وليس على الشكل ،،، الاتفاق هو رسالة إعتراف بالرسالة وإنهيار لقريش ونظامها.. إعتراف قريش بكيان الدولة الإسلامية ، وأدرك الإمام علي أن المعارضة لا تعني الأمر وإنما تعني الحق في إبداء حتى ولو كان مخالفاً لرأي الرسول مالم يتعلق الامر بالتشريع .
مثال ثالث لمفاوضات الرسول ، رسائل الرسول الى النجاشي ملك الحبشة ، والى المقوقس حاكم مصر ، وكسرى ملك الفرس ، هرقل ملك الروم ، والمنذر بن ساوي أمير البحرين ،،، جميع تلك الرسائل بها من الكلمات الدبلوماسية التفاوضية توصيل الكلمة وأسلوب المخاطبة ، عبارات مثل " السلام على من إتبع الهدى ، أدعوك بدعاية الله ، فإني رسول الله الى الناس كافة ، أسلم تسلم فان أبيت عليك إثم قومك " .
مثال رابع عند فتح مكة ، ومن مقولة " من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن "
مقابل مقولة سعد بن عبادة " اليوم يوم الملحمة ! اليوم تستحل الحرمة، فرد الرسول اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة، ( قال ان هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ، ويوم تكسى فيه الكعبة ).
.. يتبع