استعراض كتاب الراحل د صائب عريقات بعنوان : عناصر التفاوض بين علي وروجر فيشر
الإمام علي : حيوية الأمم والشعوب تعتمد إلى حد بعيد على تفاعلاتها وتحركاتها ، التي تكفل لها مواجهة أي جمود أو ركود
صفات المفاوضات عند الامام علي: الولاء والإخلاص وقدرة عالية من حصافة العقل والثقافة والمعرفة والعلم والصبر والثبات والشجاعة والتواضع والأخلاق الحميدة وعدم تضارب المصالح
هذا الكتاب " عناصر التفاوض بين علي وروجر فيشر " الذي بين أيدينا ليس كتاباً دينياً، بل هو كتاب سياسي بامتياز ، أسقط فيه المؤلف " الدكتور صائب عريقات " الأمثلة والشواهد والأحداث كعينة جريئة لإثبات صحة نظريته" فالكتاب عبارة عن دراسة علمية مقارنة بين عناصر التفاوض السبعة التي حددها المفاوض الأمريكي روجر فيشر (وهو دكتور بجامعة هارفورد الأمريكية في ذات المجال ) وعناصر التفاوض الإثني عشر عند الأمام علي بن أبي طالب، التي أثبتها الدكتور صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين في كتابه، وهي عبارة عن مقارنة بين السلوك التفاوضي الغربي والسلوك التفاوضي العربي – الإسلامي.
عناصر المفاوضات عند الامام علي :
بعد وفاة الرسول الأعظم ، قام الإمام علي بتغسيله وتجهيز جثمانة للدفن ، فيما كان الأنصار يجتمعون في سقيفة بني ساعدة يتشاورون لترشيح سعد بن عبادة ليكون خليفة للمسلمين، من هنا كانت بداية الخلافات حول الخلافة، ومع كل مبايعة كانت تدب الخلافاتمن جديد، الا أن الإمام علي بايع الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان .
ولما قتل عثمان وكانت الأوضاع الداخلية للدولة الإسلامية صعبة للغاية، وكان قتلة عثمان ومن ورائهم قوة لا يستهان بها من المسلمين، وعندما طلب طلحة بن عبد الله، والزبير بن العوام من الإمام علي القصاص من قتلة عثمان قال لهما:
إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم ؟ أي يسيطرون علينا .
في الوقت نفسه تم نصح الإمام علي بالتريث وعدم الإستعجال في تغيير الولاة ، وتحديداً عدم عزل معاوية بن أبي سفيان عن ولاية الشام ، إذ سوف يرفض قرار العزل وسوف يتسبب في مشاكل لا حصر لها ، الا أن الإمام علي إتخذ قراراً بعزل ولاة عثمان بن عفان بما فيهم معاويةبن أبي سفيان فوراً.
السؤال الذي يستحق الوقوف عنده : لماذا إختار الإمام علي التريث في إقامة القصاص على قتلة عثمان، في حين اختار عدم التريث في عزل الولاة ؟
لكن هذا الكتاب (كما يقول د صائب عريقات) لا يبحث في الفتنة ولا في خلافة الإمام علي أو الخلاف مع معاوية ، أو التحكيم ، انما يسعى للوصول الى عناصر التفاوض عند الإمام علي .
تحديد عناصر المفاوضت عند الامام علي:
كنت أبحث ولمدة تسع سنوات عن أسس ركائز السلوك التفاوضي عند العرب، ووجدت الإمام علي ونتيجة لتجاربه العظيمة مع الرسول أو عندما كان مستشاراً لدى الخليفة أبو بكر الصديق ، أو قاضياً في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ثم اميراً للمؤمنين بعد الخليفة عثمان بن عفان، هو من حدد مجموعة العناصر التفاوضية في 12 عنصراً ، بزيادة خمسة عناصر عن المدرسة الغربية الحديثة .
أولاً: عنصر المصلحة :
عند الحديث عن عنصر المصلحة لدى الإمام علي ، فان مصلحة الأفراد والجماعات والدولة وعلاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بغيره ومن ثم علاقة الإنسان بربه تستند الى المصلحة المستندة إلى العدل بصفته حكماً شرعياً من أحكام الشريعة الإسلامية التي قررت بدورها ماهو مصلحة، وما هو ليس بمصلحة للعباد .
يركز الإمام علي على وجوب التركيز على المصلحة وليس المواقف، وأن يكون الإرتكاز بالنظر الى المصلحة ببعد نظر بإعتبار أن المصلحة في إتباع الحق الذي تقرره الشريعة، فهو يرى أن بناء الأرضية المشتركة لا تتم عبر الأمنيات، فعليك أن لا تحاول الحصول على ما لا تستطيعه، بل إشغل نفسك بالحصول على ما تستطيعه وعلى هذا الأساس يكون بناء الارضية المشتركة.
ثانياً: عنصر العلاقات:
حدد الإمام علي عنصر العلاقات بمعادلة رابح - رابح ، علاقة المسلم بالمسلم والمثال علي، في مقابل معادلة معاوية رابح - خاسر .
ويتمثل في قول الإمام علي : خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم ، وإن عشتم حنوا اليكم، ويرى وجوب التركيز على المشاكل وليس على الأشخاص ، ثم يؤكد وجوب إقامة العلاقات الجيدة التي تقوم على الصدق والأمانة والاحترام وحفظ الأسرار والصبر والتعقل والبصيرة والندبة والإحترام المتبادل.
ويقول عندما تكون أسس العلاقات بين الناس وبعضهم، وبين الناس والحكام قائمة على أسس تقريب الجاهل وإستظراف الفاجر، وإضعاف المنصف، وعندما تعتبر الصدفة غرامة، وصلة الرحم مِنَه، والعبادة إستطالة على الناس، فإن الحكام صناع القرار سيكونون تحت إمارة الصبيان ، وتدبير الخصيان ومشورة الإماء.
ثالثاً: عنصر البدائل:
بحث الإمام علي هذا العنصر مطولاً ، لاسيما في تجربته من عزل الولاة والحكام .
ويقول ، صواب الرأي بالدول يُقبِل بإقبالها، ويذهب بذهابها .
والمعنى أن علو الدول يعطي لها مكانة لائقة ، وانحدار الدول يوقع العقل في الحيرة .
رابعاً: عنصر الاتصال:
يقول الإمام علي : البشاشة حِبال المودة
ما أضمر أحد شيئا الا ظهر في فلتات اللسان
وهو إشارة الى لغة الجسد، ويقول أعجز الناس من عجز في اكتساب الإخوان.
خامساً: عنصر الخيارات:
في أي مفاوضات يجب أن تحرص على بقاء الخيارات مفتوحة .
ويقول صائب عريقات ، بأن الإمام علي عندما قبل بالتحكيم مع معاوية ، تركز إلى قبول ما ورد في نصوص القرآن والسنة النبوية ، ولكن ألم يكن في رفض معاوية إعطاء البيعة للإمام علي مخالفة صريحة وواضحة للقرآن والسنة ؟
مع ذلك يقول الإمام علي يجب الإبقاء على الخيارات مفتوحة وعدم إغلاق أي منها ، بإستثناء ما يطرحه في مخالفته لتعاليم الدين .
ويقول إن أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه، ما يعني بنصٍ صريح التفكير في كل الخيارات .
سادساً: عنصر الشرعية:
الشرعية بالنسبة للإمام علي هي معرفة حقوق الناس ، وعدم الإجحاف بها تحت أي مسمى، فشعور الناس بأنها لم تأخذ حقها كانت على الدوام منبع الثورات والحروب والقلائل.
والاهم : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
سابعاً: عنصر الالتزام:
يقول الإمام علي : "لا يعاب المرئ في تأخير حقه إنما يعاب من أخذ ما ليس له "
بمعنى ان المرى لا يعاب اذا تسامح في حقه، ولكنه يعاب إذا لم يلتزم بحقوق الآخرين ، وهنا يقصد الحق الشخصي الذي يجوز للفرد التسامح فيه لا حقوق الجماعة والأمة والدين والتي لا تسامح فيها .
عناصر المفاوضات الخمسة الإضافية عند الامام علي
خمس عناصر مهمة للمفاوضات للإمام علي لم تكن في عناصر روجرز فيشر وهي:
1- عنصر العلم والمعرفة
2- عنصر القيادة والمسؤولية
3- عنصر المتغيرات
4- عنصر الصبر والثبات
5- عنصر العدل
1 - العلم والمعرفة:
يقول الامام علي : من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ، ومن أرادهما فعليه بالعلم .
2 - القيادة والمسؤلية:
حيث أن عنصر القيادة والتنظيم كعنصر من عناصر التواصل والمفاوضات، وتعتبر القاعدة الأساسية لأي مفاوضات ، فبدون التنظيم والقيادة على المستوى الداخلي لا يمكن الانطلاق لأي عمل وخاص اذا كان هذا العمل التفاوضي مع أطراف أخرى .
3 - عنصر المتغيرات:
يقول الإمام علي بأن حيوية الأمم والشعوب تعتمد إلى حد بعيد على تفاعلاتها وتحركاتها ، التي تكفل لها مواجهة أي جمود أو ركود.
يقول الإمام علي عندما وصل خبر مقتل محمد بن أبي بكر : إن حزننا عليه قدر سرورهم به ، الا انهم نقصوا بغيضاً ونقصنا حبياً ، وقد قال معاوية عندما سمع هذا الخبر : خبر سار لأننا تخلصنا من عدو.
4 - الصبر والثبات:
الصبر عند الإمام علي هو مقاومة نوائب الدهر ، والجزع أي شدة الفزع يعين الزمن على الإضرار بصاحبه ، وعندما لا تتمنى شيئا تكون قررت الإستغناء عنه .
5 - عنصر العدل:
العدل هو الأساس الذي يستمر وإن إستمر ، العلاقات الجيدة ، والاتفاقات المتوازنة والعقود والمعاهدات القائمة على الشرعية، والعدل بالنسبة للإمام علي أربع شعب .. غائض الفهم ، وغور العلم ، وزهرة الكم ورساخة الحلم، والحق ثقيل مرئ ، وأن الباطل خفيف وبئ .
صفات المفاوضات عند الامام علي:
أن يكون المفاوض على درجة كبيرة من الولاء والإخلاص للجهة التي يمثلها ، وأن يكون على قدرة عالية من حصافة العقل والثقافة والمعرفة والعلم والصبر والثبات والشجاعة والتواضع والأخلاق الحميدة وعدم تضارب المصالح .
ومن الضروري القول أن عليه أن يعود ويعرض الأمر على القيادة أو البرلمان أو اعضاء مجلس الإدارة ، ولا ضير أن يقول بأنه جزء من صناعة القرار وليس المقرر الوحيد، هذا سيزيد من فرص الحفاظ على مصالحه وبناء أرضية مشتركة على أسس التبادل في الأخذ والعطاء للوصول الى مربع رابح – رابح وليس رابح – خسران ويحدد صفات المفوض كالتالي:
1- الوفاء والإخلاص وعدم الإنقلاب على نصرة الحق.
2- ضرورة الإلتزام وتنفيذ ما عليك فعله
3- الحذر وعدم الخروج عن الحق والصالح العام وعدم الوقوع في الخديعة.
4- المفاوض يمثل صاحب القرار
5- عدم الإستناد إلى ما قد يكون قابلاً للتفسير بأكثر من طريقة حتى لو كان ذلك القران.
6- الابتعاد عن الإعجاب بالنفس والغرور وإحترام النفس وإحترام الآخرين.
7- أن يتمتع بالحكمة والعقل والصبر والثبات
8- عدم التخاصم والنزاع حول الأمور الغامضة.
9- الالتزام بالأخلاق الحميدة والحلم حتى في أحلك الظروف
10- الإستفادة من التجار ودراسة ودراية المتغيرات والتطورات.
11- على المفاوض وهو يمارس المفاوضات إستنادا الى العمل بروح الفريق والتواضع والحياء والخلق الكريم ( هلك إمرؤٌ لم يعرف قدر نفسه)
12- المفاوض سيكون قريباً من الحاكم أو المسؤول أو صاحب القرار ، فهو يأخذ التعليمات منه ويقدم التقارير له .
فالوصول إلى الأرضية المشتركة وإلى إتفاق يأخذ بعين الإعتبار مصالح الطرف الذي يمثله هذا المفاوض، ويتطلب إختيار الأشخاص القادرين على القيام بهذه المهمة على أسس الكفاءة والتجربة والخبرة والعلم وحسن الخلق والحياء والشجاعة والوفاء والإخلاص .
المحطات الرئيسية عند الامام علي وعناصره التفاوضية الاثني عشر
المحطات الرئيسية: القصاص من قتلة عثمان / عزل الولاة
مفاوضات الرسائل
مقتل عثمان ومبايعة الامام علي :
تم قتل الخليفة الثالث عثمان ، وتم إقتحام بيت مال المسلمين والإستيلاء على أموال كثيرة ، القتلة كانوا معروفين ويتجولون بحرية، وقيل أن امير المدينة المنورة أثناء الفتنة الغافقي بن حرب كان في الفتنة، فالأوضاع كانت صعبة ومعقدة وأقل ما يقال إنها حالة من الفوضى والفلتان وانعدام الأمن وتعدد السلطات .
اجمعت الروايات أن الإمام علي لم يسع وراء الخلافة بل نستطيع الجزم بأنه رفضها عندما عرضت عليه أكثر من مرة ، لكن إجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام فجاؤوا الى الإمام علي بعد سبعة أيام من مقتل عثمان وقالوا له : هلمنا نبايعك، فقال لهم لا حاجة لي في أمركم ، أنا معكم فمن إخترتم قد رضيت به ، فقالوا له : ما نختار غيرك .. كرروها أكثر من مرة ، وأخيرا قال لهم : إنكم قد إختلفتم إلى وأتيتم ، وإني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم ، وإلا فلا حاجة لي فيه ، قالوا : ما قلت من شيئ قبلنا به ان شاء الله .
فخرجوا الى المسجد حيث أراد الإمام علي ان تكون البيعة علنية وخطب الإمام قائلاً :
اني كنت كارها لأمركم ، فأبيتم إلا أن أكون عليكم ، ألا وانه ليس لي أمر من دونكم ، إلا أن مفاتيح مالكم معي ، ألا وانه ليس لي أن أخذ منه درهم دونكم ، رضيتم ؟ قالوا نعم ، قال اللهم إشهد عليهم . فتمت البيعة .
تمت مبايعة الإمام علي في ظروف صعبة ومعقدة وفي حالة فوضى وفلتان وتعدد سلطات وعصيان وتمرد ليس فقط على صعيد مكة والمدنية والجزيرة العربية ، بل مصر والشام والكوفة والبصرة وأذربيجان وأصفهان والأردن وفلسطين وغيرها .. لكن مصلحة الامة تولي الإمام .
قال الإمام علي للمهاجرين والأنصار إختاروا أميراً وأنا معكم فمن إخترتم قد رضيت به .. لذا فهو خارج حدود الفتنية والإتهام والتحريض التي أوصلت إلى قتل الخليفة عثمان ، فلماذا يقال بأنه كان جزءاً منها وهو لا يرغب في الخلافة ؟؟.
.. يتبع
مواضيع متعلقة ...
https://www.delmonpost.com/post/del-79