"لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه .." (سورة الحشر ٢١).
إعجاز القرآن يعني بأن القرآن له صفة إعجازية من حيث المحتوى والشكل، أو من حيث أحدهما. ولا يمكن أن يضاهيه كلام بشري. والقرآن هو الدليل المعطى للنبي محمد ﷺ للدلالة على صدقه ومكانته النبوية. يؤدي الإعجاز غرضين رئيسين: الأول هو إثبات أصالة القرآن وصحته كمصدر من إله واحد. والثاني هو إثبات صدق نبوة محمد ﷺ الذي نزل عليه لأنه كان ينقل الرسالة .. فيما يلي عدد من الحلقات التي تدور في محتواها بهذا الاعجاز يكتبها الشيخ حميد المبارك بقلمه.
(١)
التحدي بالقرآن.
قد دلت النصوص الدينية على صدور معجزات حسّية عن الأنبياء، مثل انشطار البحر لعبور بني إسرائيل وغرق فرعون (سورة البقرة ٥٠، سفر الخروج ١٤: ١٥-٣١). لكن هل صرّح في القران بصدور معجزة حسية على يد النبي محمد بنحو واضح؟ لا يوجد نص صريح في ذلك، عدا ما ذكروه في تفسير الآيات ١-٢ من سورة القمر، "اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ".
وقد تكرّر في السياقات القرآنية الجمع بين عدم إنزال الآيات الحسّية وبين التحدي بالقرآن، كما في سورة الاسراء ٥٩، ٨٨-٩٣ "وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ. .. قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرآن، لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا.
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء، وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ، قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً". ولا يخلو الجمع بين الأمرين من إشارة إلى كفاية بالقرآن في مقام التحدي.
يُضاف إلى ذلك، الآيات ١١٨-١١٩، ١٢١ من سورة البقرة "وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِيَنَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ. .. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ". ويُلاحظ أن سياق الآيات يشتمل على العدول عن الاستجابة لهم في طلب المعجزات إلى التأكيد على الكتاب.
أما التحدي بالقرآن، فقد ورد في مستويات مختلفة. فقد جاء التحدي بجملة القرآن كما في سورة الطُّور ٣٣-٣٤، وهي مكية، "أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لّا يُؤْمِنُون. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِين". وجاء التحدي بعشر سور، وذلك في سورة هود ١٣-١٤، وهي مكية، "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين. فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ ..".
وجاء التحدي بسورة من مثله، كما في سورة يونس ٣٧-٣٨، وهي مكية، "وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ، وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِين. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ، وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين". ومثله الآيات ٢٣-٢٤ في سورة البقرة. ويترتب على ذلك، أولاً: إن الغالب في آيات التحدي أنها ناظرة إلى أهل مكة. وثانياً: إن التحدي بسورة من مثله هو المتأخر، وذلك لوروده في سورة البقرة، والتي تُعدّ من السور المدنية في ترتيب النزول.
ثم إنه ما هي السُّورة؟ قال في تفسير الجلالين: وَالسُّورَة قِطْعَة لَهَا أَوَّل وَآخِر، أَقَلّهَا ثَلَاث آيَات. انتهى. وبناء على هذا الكلام، لا يتعيّن في مصطلح السورة الوارد في تسع موارد من القرآن، المعنى المُتعارف اليوم في المُصحف. لكن الآية ١ من سورة النور "سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"، أقرب إلى الاشارة إلى تمام السُّورة في المُصحف. وذلك لما اشتملت عليه من سياقات مترابطة ومضامين متصلة من أولها إلى آخرها، نظير أحكام الزنا والملاعنة والحشمة وبعض الآداب الاجتماعية. وبالتالي، يمكن أن يكون هذا شاهداً على اكتمال جمع السُّور أو بعضها في زمن النبي، وذلك قبل جمعه كاملاً في زمن الخليفة.