DELMON POST LOGO

القواعد السبع في فهم القرآن الكريم  

بقلم : الشيخ حميد المبارك

لقد صرح القرآن الكريم عن نفسه بأنه لسان عربي مبين (الشعراء ١٩٥)، وأنه قابل للتدبر دون اشتراط منزلة علمية خاصة (محمد ٢٤). لكن ذلك لا يعني أنه يُقرأ كما تُقرأ النصوص العامية، بل هو نص وحياني:

(1) جاء في قالب لغوي خاص يختلف جداً عن اللغة العربية التي نمارسها في حواراتنا العادية، ولا يمكن استيضاح تمام مراداته خارج بيئته اللغوية العربية الخاصة.

(2) وقد جاء في سبك بلاغي يتسم بالجزالة ودقة التعابير.

(3) ويعتمد في بيان مقاصده على سياقات يفسر بعضها بعضاً.

(4) كما إنه يشتمل على مضامين عميقة ومتسقة ضمن نظام اعتقادي وسلوكي متكامل. وبالتالي، لا مناص عن أخذ هذه النقاط بعين الاعتبار لأجل فهم متوازن لمقاصد القرآن الكريم. وفيما يلي بعض القواعد السبع :

القاعدة الأولى:

الالتزام بالفهم العرفي للنص القرآني من خلال فهم المصطلح في زمن النص، والتقيد بالسّياقات ضمن قواعد التخاطب العرفية. فإن المضمون وإن كان وحيانياً، لكنه جيء به في قالب لغوي مُحدَّد يخضع لقواعد التخاطب والتفهيم في زمانه. وذلك القالب اللغوي أداة تفهيم متفق عليها في اصطلاح لغة معينة، "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ .." (إبراهيم ٤). فلابد إذن في فهم ما هو مقصود ومراد المتكلم من ملاحظة قواعد اللُّغة التي أخضع مضامينه لقوالبها. ويترتب على ذلك: (١) عدم استحداث معاني جديدة للألفاظ على خلاف المصطلح في وقت نزول النص. (٢) الاعتماد على الفهم العرفي في انطباق المفهوم وليس المداقة العقلية. مثلاً، المقصود في قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ .." (المائدة ٦) هو صدق غسل الوجه واليدين من المرافق بحدودهما العرفية، فلا يشترط فيه التدقيق المليمتري في حدود الوجه ومبتدأ المرفق ومنتهى أطراف الأصابع، ولا التدقيق في عدم وجود حائل ولو كان بمقدار لا يمنع عن صدق أنه غسل وجهه ويديه عُرفاً.

القاعدة الثانية:

إن كون المضمون القرآني صالحاً لكل زمان لا يرجع إلى تجدد المعنى اللغوي، فإنه ثابت ومحدد بزمان نزوله أو صدوره، ولكنه راجع إلى تجدد المصاديق والتطبيقات للمفاهيم المقيدة بالعرف أو المتعارف، فإنها قابلة للتغير من حال لآخر، نظير: (١) ما يتحقق به الرُّشد (النّساء ٦)، وهو القدرة على الاستقلال في تدبير المعيشة والمعاملة بقدر المتعارف. (٢) حدود النفقة الواجبة. (٣) شروط القدرة على العدل بين الزوجات. (٤) من ينطبق عليه عنوان الفقير، أي الفاقد للحد الأدنى من مستويات المعيشة المتعارفة بين الناس. وغير ذلك من الأمثلة.

القاعدة الثالثة:

ضرورة ملاحظة ما يحتف باللفظ من قرائن، وذلك لتأثيره في معرفة حدود المقصود بالمضمون. ومن ذلك ملاحظة الغايات والتسبيبات المستفادة من سياقات النص، "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ، ذلك أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ .." (الأحزاب ٥٩)، فإن السّياق واضح فيما هو المناط وهو تجنب الإيذاء. ومنه أيضاً ملاحظة مناسبات الحكم والموضوع، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .." (البقرة ٢٧٨-٢٧٩)، فإن الحكم بكون الرّبا حرباً مع الله ورسوله يتناسب مع الربا الاستهلاكي المنافي لأساسيات الأخلاق، والذي يستغل فيه الغنيُّ الفقيرَ المحتاج لضرورة المعيشة.

القاعدة الرابعة:

لا غنى عن الرجوع إلى الروايات والأحاديث المُنبّهة على دلالات وإشارات النص القرآني، ومنها الأحاديث أو التفاسير التأويلية المُتفقة مع روح المضمون، أي المُنبّهة على مصاديق غير ظاهرة من اللفظ لكنها لا تتعارض مع المقصود النهائي للسّياق. قال ابن كثير في قوله تعالى في سورة الكهف ٨٦: وقوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ..) أي: فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض. وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له. وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب، واختلاق زنادقتهم وكذبهم. وقوله: (.. وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ..) أي: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه. انتهى كلامه. أقول: فإن المقصود النهائي في السّياق هو بيان سعة مملكة ذي القرنين حتى بلغ أقصى ما يصل إليه ذو سلطان في الشرق والغرب (الكهف ٨٤-٩٠). ومثله في التأويل قوله ".. قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ .." (البقرة ٢٥٨). وقد يكون للتأويل صلة بتفاصيل اعتقادية، نظير قوله "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" (طه ٥)، وقوله ".. وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا" (النساء ١٦٤)، لكن ليس شيء من مستويات التأويل في الآيات مُخرجاً عن الديانة إذا كان مستنداً إلى بناء اجتهادي يراه الناظر حجة عليه، "قَالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ .." (المائدة ١١٩)

القاعدة الخامسة:

الاقرار باشتمال القرآن الكريم على كل ما يحتاجه الانسان من أساسيات الديانة، ".. مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (يوسف ١١١) أي تفصيل ما يحتاجه الانسان من مقومات الديانة، وهذا نظير قوله "إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ .." (النمل ٢٣)، أي من أركان الملك والوفرة وليس من كل شيء مطلقاً ولا من كل ما لدى الملوك الآخرين من مقتنيات. وكذا قوله تعالى ".. أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا ولكنّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (القصص ٥٧)، فإن لفظ "كُلِّ شَيْءٍ" يراد به مفهومه العرفي الذي يفي بالغرض العام من السياق وهو إفادة الوفرة، وليس الاستيعاب الدقي الفلسفي. وعليه، فقوله تعالى في النحل ٨٩ ".. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" أي تبياناً لأصول الديانة التي بدونها يخرج الانسان عن حدودها. وتتلخص فيما تُرشد إليه الفطرة، أي التوحيد الاعتقادي والعملي، والقِيم الأخلاقية المتصلة بالعبادات والمعاملات (الأنعام ١٤٥-١٦٤). قال في تفسير الصافي عن الآيات في سورة الأنعام: وفي المجمع عن ابن عباس: أن هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء في جميع الكتب، وهي محرمات على بني آدم كلهم، وهن أُم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار، وقال كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إن هذا لأول شيء في التوراة. انتهى كلامه. أقول: وقد تقدم قوله عن كتاب موسى ".. وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ .." (الأنعام ١٥٤)، وفي الأعراف ١٤٥ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ .."، وهو إشارة إلى لوحي الوصايا العشر التي أعطى الله موسى (التثنية ٥: ٦-٢٢). وخلاصة اللوح الأول هو التوحيد الاعتقادي والعملي، وخلاصة اللوح الثاني هو أساسيات المعاملة والتي أولها إكرام الوالدين ثم الامتناع عن القتل والزنا والسرقة .. الخ (الاسراء ٢٢-٣٩). والمحصل: إن المقصود بتفصيل كل شيء (يوسف ١١١) وتبيان كل شيء (النحل ٨٩)، هو اشتمال الكتاب على مقوّمات الديانة، وأما الزائد على ذلك من تفاصيل الاعتقاد والشريعة فهو تابع لقيام الحُجة، فمن نهض عنده الدليل في شيء من فروع الديانة فهو مُلزم باتباعه بمقتضى التسليم للحجة بينه وبين الله تعالى (البقرة ١١٢)، وأما من لم تتم عنده الحُجة ولم ينهض لديه الدليل  فهو في عذر حتى يتضح له الحال فيه.

القاعدة السادسة :

لا يشتمل النص القرآني على دعوى أن ما جاء به زائد على أصل ما تقتضيه صبغة الله وفطرته التي فطر الناس عليها، والتعاليم الأساسية التي اشتملت عليها الكتب السابقة، "قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ" (البقرة ١٣٦-١٣٨). وقد عرّف الدين بأنه الفطرة التي لا تتبدل بزيادة ولا نقصان، "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (الروم ٣٠-٣١). وقد نص على اشتمال كتاب موسى على تفصيل كل شيء، "ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الأنعام ١٥٤-١٥٥).

والمتحصل من هذه المضامين هو إن القرآن الكريم ليس في صدد بيان أمر زائد عما تقدم، ولا يدعي ذلك لنفسه، بل هو تأكيد وتذكير بما تضمنته الفطرة واشتملت عليه الكتب السابقة، ".. قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ" (الأنعام ٨٣-٩٠).

‍القاعدة السابعة:

لا يمكن إغفال ظاهرة من الظواهر القرآنية، وهي كثرة الاحالات القرآنية إلى الكتب السابقة، "وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. .. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ .. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ .." (المائدة ٤٣، ٤٨، ٦٨)، وفي الأعراف ١٥٧ "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ .."، وغير ذلك من الموارد الكثيرة.

وترشد هذه الظاهرة القرآنية إلى أهمية الرجوع إلى الكتب السابقة في فهم موارد الارجاع. وصحيح إن النُّسخ التي هي محل النظر في الاحالات القرآنية لم تعد متاحة أو مُتيقناً بوجودها وسلامتها من التحريف، لكن هذا لا يلغي فائدة الرجوع إلى النُّسخ التي بأيدينا حتى لو افترض وقوع بعض التحريفات، فإن المقارنة تساعد جداً في اكتمال الصورة المعرفية، وبالتالي فهم النصوص بنحو أفضل. ولابد من التفريق بين اعتماد صحة النصوص التوراتية والإنجيلية التي بأيدينا، وبين النظر فيها على أساس التوسع في الآفاق المحتملة لتفاصيل المضامين، وبالتالي إمكان إتاحة فهم أكثر وضوحاً للنص القرآني أيضاً. وقد أذكر هنا بعض الأمثلة من قصة يوسف أنموذجاً:

١- وقد ذكر في القرآن الكريم على لسان الإخوة تفضيل أبيهم ليوسف وشقيقه، "إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (يوسف ٨). فعلى أي شيء بنوا قولهم؟ وقد سيق في التوراة تفضيل يعقوب ليوسف كأمر حاصل، "وَأَمَّا إِسْرَائِيلُ فَأَحَبَّ يُوسُفَ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ بَنِيهِ لأَنَّهُ ابْنُ شَيْخُوخَتِهِ، فَصَنَعَ لَهُ قَمِيصًا مُلَوَّنًا" (التكوين ٣٧: ٣). فلا يتعين في التفضيل أن يكون من قبيل الحيف الظاهر في المعاملة، فقد يكون من قبيل مؤشرات السّلوك المترشحة عن أمور نفسية قاهرة، ومن ذلك الميل القلبي وزيادة الاشفاق. وذلك لكون يوسف وأخيه بنيامين ابني الكِبَر، إذ هما الأخيران بين الاثني عشر (التكوين، الإصحاحات ٢٩، ٣٠، ٣٥، ٣٧)، والأصغر بين إخوتهما والأحوج للرعاية (يوسف ١٣-١٤، ٦٤). مضافاً إلى كونهما ابني راحيل (التكوين ٣٠: ٢٢-٢٤)، وهي الزوجة التي أحبها (التكوين ٢٩: ١٨-٣٠)، وكان يحتاط لسلامة راحيل ويوسف أكثر من أي أحد من أي فرد آخر من عائلته (التكوين ٣٣: ١-٢)، وقد ماتت راحيل بعد نفاسها ببنيامين (التكوين ٣٥: ١٦-١٩).

٢- طلب يوسف من إخوته أن يُحضروا أخاهم من أبيهم "وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ. وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ. فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ" (يوسف ٥٨-٦١). وقد يثير السياق في الآيات تساؤلاً، حيث إنه طلب منهم أن يأتوا بأخ لهم من أبيهم قبل أن يُعرّفهم بنفسه، فإذا كان الظاهر عندهم أنه عزيز مصر ولا يعرفهم فكيف استخبر أن لهم أخاً من أبيهم؟ ويحتمل وجود جزئية في سياق الحدث لم يوضحها النص.

ونسق الخطاب القرآني ليس قصصياً بمعنى الاعتناء بنقل المشهد بكل الجزئيات الدخيلة فيه. فقد يكتفي ببيان النقلات الرئيسية في القصة، والتي يبتني عليها التماسك العام للقصة والرسالة المراد إيصالها من خلال نقل الحدث. بخلاف النسق التوراتي الذي هو غالباً تدوين قصصي يهتم بنقل المشهد بكل تفاصيله.

وجاء في السّرد التوراتي بأنهم سبق أن أخبروه بأن لهم أخاً صغيراً عند أبيه (التكوين ٤٢: ٧-١٣). وقد عاتبهم أبوهم لاحقاً على إخبارهم حاكم مصر بأن لهم أخاً صغيراً، "فَقَالَ إِسْرَائِيلُ: لِمَاذَا أَسَأْتُمْ إِلَيَّ حَتَّى أَخْبَرْتُمُ الرَّجُلَ أَنَّ لَكُمْ أَخًا أَيْضًا؟ فَقَالُوا: إِنَّ الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَ عَنَّا وَعَنْ عَشِيرَتِنَا، قَائِلاً: هَلْ أَبُوكُمْ حَيٌّ بَعْدُ؟ هَلْ لَكُمْ أَخٌ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ بِحَسَبِ هذَا الْكَلاَمِ. هَلْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ: انْزِلُوا بِأَخِيكُمْ؟" (التكوين ٤٣: ٦-٨). وقد بدا طلب يوسف منهم إحضار أخيهم وكأنه في سياق التأكد من صدق كلامهم (التكوين ٤٢: ١٤-١٥)، مع إن واقع الحال يقرّب أن دافعه هو اشتياقه لرؤية شقيقه الأصغر، والذي ماتت أمه (راحيل) بعد مخاضها به (التكوين ٣٥: ١٦-١٨).

٣- رفض كبير الإخوة أن يغادر بدون الصغير، "فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ، فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ" (يوسف ٨٠). وفي الرواية التوراتية أن رأوبين الذي هو كبير إخوته (التكوين ٢٩: ٣١-٣٢)، كان قد تعهد لأبيه بإعادة بنيامين إليه التكوين ٤٢: ٣٧).

--------------------

بناءا على طلب القراء ، نعيد نشر القواعد السبع في مقال واحد رغم طوله .