"لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه .." (سورة الحشر ٢١).
إعجاز القرآن يعني بأن القرآن له صفة إعجازية من حيث المحتوى والشكل، أو من حيث أحدهما. ولا يمكن أن يضاهيه كلام بشري. والقرآن هو الدليل المعطى للنبي محمد ﷺ للدلالة على صدقه ومكانته النبوية. يؤدي الإعجاز غرضين رئيسين: الأول هو إثبات أصالة القرآن وصحته كمصدر من إله واحد. والثاني هو إثبات صدق نبوة محمد ﷺ الذي نزل عليه لأنه كان ينقل الرسالة .. فيما يلي عدد من الحلقات التي تدور في محتواها بهذا الاعجاز يكتبها الشيخ حميد المبارك بقلمه.
(3) .. في دعوى الاعجاز البلاغي.
وفي البدء، أود التنبيه على ثلاثة أمور هامة:
١- إن اشتغال بعض نقاد القرآن بالبحث عن أخطاء لغوية فيه، هو في نظري نوع من العبث والتيه الفكري. وقد يكون ناشئاً عن تحامل وتعصب مفرط، أو نتيجة قياس اللهجة القرشية على سائر اللهجات العربية. فإن من جاء بالقرآن لم يكن هندياً ولا رومياً ولا فارسياً، بل كان شخصاً عربياً ابن عربي، ومن بطن الجزيرة العربية، وقد قرأ نصوصَه على رؤوس الأشهاد. وهو أيضاً من عشيرة الهاشميين، أسمى بيتٍ في قريش، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم فصاحة في الكلام وبلاغة في الخطاب. هذا، وإن أغرب ما قرأتُه في نقد اللغة القرآنية، دعوى اشتمالها على مفردات غير عربية. فإن هذا النقد يُغفل طبيعة اللغة وطريقة نشأتها وتوسّعها وتطوّرها مع الزمان، وذلك بتداخل مفرداتها مع لغات أخرى، نتيجة التعامل الثقافي بين الأمم في التجارة والهجرة والارتحال. ولذا نجد أن اللغات السامية، كالعربية والعبرية والآرامية والحبشية، تختلف حسب المناطق في الكثير من خصوصياتها، لكنها تشترك في الكثير من تصاريف الأفعال وجذور الكلمات.
فلا يضرّ باللغة العربية استعارتُها مفرداتٍ من لغة أخرى. مادامت تخضع لقوانين اللغة ذاتها. كما لا يضرّ باللغة الانجليزية مثلاً تداخلُ الكثير من مفرداتها مع اللغات الأخرى، كاللاتينية والإغريقية. فالمهم في جوهر اللغة هو حفاظها على قواعد التركيب والتعبير، وليس نقاء المفردات. إذ إن مفردات اللغات لا تنشأ بالوضع والتعيين المباشرين بل نتيجة تراكم عوامل كثيرة، ومنها التداخل والتأثر بمفردات اللغات الأخرى.
٢- ولابد من الاشارة أيضاً إلى ما يتميّز به النص القرآني عن الكتب المقدسة السابقة. وهي إنه خطاب شفاهي، تظهر فيه شخصية "الله" المتكلم بوضوح. وأما النبي فهو لا يظهر في النّسق إلا من حيث كونه جهة مُخاطَبة. فكأن مجمل الخطاب منفصل عن النبي، وكأنه مُتلَقٍ من خارج ذاته. بينما "أسفار العهدين" الموجودة بأيدينا، هي تدوينات، كتبها الأنبياء أو من لهم صلة بهم، وتشتمل على نقل "أقوال الله" ضمن سياقات نقل القصص والحوادث. ولذا فإنه حين ينقل شيئاً من كلام الله، يحتاج أن ينبّه عليه بمِثل "يقول الرّب"، أو ما يقرُب من ذلك.
٣- بينما نقرأ "اسفار العهدين" مُترجمة عن لغات أخرى، وذلك يؤثّر بدون شك على صورتها البلاغية الأولى، فإننا نقرأ القرآن بلغته الأصلية، ويمكننا أن نتلمّس بريقه الأوّل، وأن نستشعر اشتماله على درجة عالية من السُّمُو اللُّغَوي والبلاغي، "وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه"، وأنه أخذ بألباب العرب وعقولهم. لكن السؤال المرتبط بالبحث هو، هل يبلغ هذا التميّزُ حدَّ الاعجازِ والتحدي، وإثباتِ المصدر الرّباني للقرآن وعصمةِ مضامينه؟ لا توجد ملازمة بين التفرد البلاغي وبين الصحة المطلقة في المضمون. وذلك لأن التاريخ، ومنه تاريخ العرب، مليء بنماذج أشخاص شغلوا الدنيا بطرقهم التي يتميزون بها في الأدب والبلاغة، بحيث كان بإمكانهم توقُّع أن لا يشابههم أحد في خصوصيات ما أتوا به، حتى لو كان الآخر ضليعاً في ذات الشيء. إذ إن للمُتفرد أسلوبَه الخاص الذي لا يُشبهه فيه أحد. قال الشريف الرضي في "نهج البلاغة": ومن كلام له عليه السلام بعد أن أقدم أحدهم على الكلام فحُصِر، "أَلاَ إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَلاَ يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ، وَلاَ يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ، وَإِنَّا لَأُمَرَاءُ الْكَلاَمِ، وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصوُنُهُ". الخطبة ٢٣٣).
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي .. وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـن بـه صممُ
أَنـامُ مـلءَ جفونـي عن شوارِدِهـا .. ويسهر الخلـق جَرّاهـا ويختصمُ.