ضرب الصدر يمثل حالة تعبيرية لمعايشة المأساة والألم من تفسّخ الإنسانية
بقلم : جعفر حمزة
ما إن تتراءى لك ذكرى عاشوراء حتى يترافق معها كظلها السواد الذي يلف الأمكنة والأجساد، وذلك في المجتمعات التي تُحيي ذكرى واقعة الطف الذي اُستشهد فيها الإمام الحسين سبط الرسول الأكرم (ص)، وبطريقة بشعة قلّ مثيلها في التاريخ البشري.
ذلك السواد الذي يمتص كل ألوان الطيف والحياة ليكتنزها في لون واحد وهو لون قاتم ينبض بالحياة بالرغم من قتامته، وذلك هو أحد أسرار عاشوراء والتي يتحوّل الألم فيها إلى أمل، والحزن إلى مُزن من القيم والمبادىء النبيلة.
وكحال أى ذكرى يتمثلها البشر من السماء أو الأرض، تتحرّك تلك الذكريات لتكون مجسمة بفعل وقول ولباس وحركة وجو عام ،
ومع فطرية تلك الحركة إلا أنها تكون في منطقة رمادية قد تتأرجح بين اليمين والشمال، لذا توضع المؤشرات والمعايير التي تحتفظ بالمعنى وتهذّب الشكل من الناحية الشرعية الفقهية كأبرز صور التقييم.
ومن الصور البصرية المرافقة لأعظم حدث تاريخي في المجتمع البشري هو ما جرى على حفيد الرسول (ص) من مجزرة وحشية قام بها جيش عمر بن سعد بأمر من الخليفة يزيد بن معاوية -الذي أخذ الخلافة بالقوة والإرهاب والتدليس- ، ومن تلك الصور المرافقة لإحياء تلك المناسبة والتي تمثل رمزية شموخ الحق في وجه الباطل بكل القيم التي تمثل الحق من نبل وتضحية وفداء وبذل وعدالة وإصلاح في قبال كل القيم الباطلة من إجحاف وظلم وتدليس وخداع وتحكيم أهواء .
هي صور التعبير عن حجم الفاجعة وتذكرها بصورة جمعية من خلال التعبير عن الحزن لتلك المأساة عبر ضرب الصدور في مواكب العزاء أو في مجالس التعزية التي تُقام للتذكير بتلك الحادثة المأساوية ونشر القيم النبيلة التي جاهد واُستشهد من أجلها حفيد الرسول.
ويمثل ضرب الصدر حالة تعبيرية لمعايشة المأساة والألم من تفسّخ الإنسانية الذي أدّى إلى تلك التراجيديا التاريخية في مكان المأساة (كربلاء)، وتلك الصورة طبيعية ضمن المعايشة الفطرية لأي مأساة إنسانية، وهي طريق ملموس للوصول إلى مساحة القيمة الفعلية للشعيرة، فالطواف حول الكعبة حالة عملية ملموسة تُجسّد قيمة الخضوع المطلق للعبد تجاه ربه، كذا الأمر في كل الصور العبادية الأخرى، والمشترك في القاعدة الفكرية لكل تلك الصور هي حالة التغيير الإيجابي والتقرّب إلى الله عبر إحداث الإصلاح في الفرد والمجتمع ليصل الأخير إلى حالة التقوى والثبات على المبادىء، لذا كانت الشعائر من تقوى القلوب.
وإحياء ذكرى عاشوراء الحسين بما فيها من قيم إنسانية نبيلة تمثل إحدى الصور التعبيرية للشعائر ما دامت تقرّب إلى الله وتحول المجتمع إلى حالة إصلاح وتغيير إيجابي.
وعوداً إلى تلك الحالة الجسدية التوافقية بين ضرب الصدر باليد، وحديثنا هنا عن الحالة الطبيعية للضرب وليس الضرب المبرح المؤذي، وفي ذلك ما للعلماء والفقهاء من آراء متباينة نوعاً ما، إلا أن الحديث هنا عن المنطقة المتفق عليها في التعبير هو ضرب الصدر. فلم ضرب الصدر؟
ألا ترَ أن من يتوقف قلبه يتم إنعاشه بصعقات كهربائية ليعود النبض لقلبه من جديد؟
ضرب الصدر حالة شعورية تعبيرية إنسانية تختزن في ذاتها الألم فيتحوّل إلى ضرب للصدر، ليكون التالي المتوقع هو العمل من خلال تحريك ما بداخل الصدر وهو القلب ليستيقظ وينتعش ويقوم بالتغيير.
وشتّان ما بين الضربتين، بين ضرب الصدر حزناً وتفاعلاً ظاهرياً وبين ضرب الصدر للقلب ليغيّر الفرد سلوكياته نحو الأفضل ويتخذ من قيم المناسبة نبراساً وعنواناً.، فشتّان ما بين الضربتين، قد تكون ضربة الخارج لإرضاء النفس والتماشي مع العقل الجمعي، وضربة الداخل ليكون التغيير بداية انطلاقة من محرّم كمحطة بداية ومراجعة إلى محرّم القادم.
فأي الضربتين ننشد وأيها نستمر فيه؟ أضرب الخارج ليحمر الجلد ونرضي النفس ونقفل عائدين بعد أن قضينا ما علينا من مراسم وطراً؟ أم نجعل تلك الضربة الخارجية تصل بقوة الوعي وبحجم المأساة إلى عمق القلب ليتحرك ويتغير؟
وليكون ما ذكرناه عملياً، لا بد من ثلاثية تضمن وصول الضرب للقلب ليتحرك، وهي: المعاهدة والتمثيل والمتابعة
المعاهدة:
الاستفادة من المناسبة لتكون هي المعاهدة بين محب وعارف حق الحسين وقيم الحسين . التي اُستشهد من أجلها، ويكون ذلك من خلال التشرّب الأمثل من المجالس الحسينية ذات الفائدة الأكبر عبر مواضيع الخطيب والمشاركة في الفعاليات المجتمعية ذات المردود الإيجابي للمجتمع، من قبيل التبرع بالدم ومساعدة المحتاجين والتقرّب من الفقراء ومعاونة الضعيف، ونصرة المظلوم بالطرق المُتاحة والممكنة.
ويلزم لتلك المعاهدة نية صادقة ووعد عملي بين الفرد وقيم الإسلام المتمثلة في الإمام الحسين .
التمثيل:
أخذ القيم من هذه المناسبة وتمثيلها في الحياة اليومية من أجل هدف أسمى هو هدف الإمام الحسين في خروجه ( الإصلاح) بكل ما للإصلاح من حركة في الأسرة والقرية والمجتمع والدولة والعالم.
ويكون ذلك باتباع الأسباب المؤدية إلى التمثيل الملموسة نتائجة، وذلك من خلال التماس الطُرق والوسائل الكفيلة بتمثيل تلك القيم بما يتناسب مع التغيرات التي تطرأ على المجتمع، سواء من ناحية التعبير أو ماكينة التغيير.
المتابعة:
وهي آلية ضرورية للتأكد من أنّ القيمة المطلوبة موجودة بالفعل والقوة، وهي السبيل لإنعاش وضخ الروح في وجود القيمة بحركتها في الفرد والمجتمع. ويكون ذلك من خلال وضع نقاط مراجعة يتم الرجوع إليها ليتم التقييم إثر الأهداف الموضوعة، سواء كان الأمر في الدائرة والفردية كالمحافظة على الصلاة في أوقاتها ومساعدة المحتاجين أو عبر التغيير في الدائرة الأكبر في المجتمع عبر التوعية ورفع مستوى الفهم العام لقيم الإصلاح الحقيقي.
وما يمّيز مدرسة أصحاب أهل البيت عليهم السلام هي وجود محطات زمنية غير متباعدة في إحياء مناسباتهم، وبالتالي تكون مسألة المتابعة حيوية وليست متباعدة الزمن.
فمناسبات ذكرى المواليد والوفيات والاستشهاد والأحداث ما يقارب من مائتين مناسبة في السنة، أي أنها تغطي كل السنة، مع وجود محطات أربع رئيسية وهي:
أولاً: شهري محرم وصفر، ثانياً: شهر رمضان، ثالثاً: موسم الحج، رابعاً: الأعياد والوفيات.
وتلك المحطات كفيلة بمتابعة مستمرة وحيوية للأهداف الموضوعة للفرد والمجتمع للتغيير.
ويمثل الصدر الأول (اللطم علي الصدر تعبيراً عن الحزن) من أشد الساحات تأثيراً وتغييراً في الصدر الثاني (التغيير في القلب بالتزام القيم والعمل بها).
وقلّما تجد أنموذجاً حيوياً يعيش كل تلك السنين الطويلة وما زالت تحتفظ بصورة صدريها ( السلوك الظاهري كشعيرة والتغيير الإيجابي التي تحملها صور عاشوراء كقيمة).
والمطلوب في مثل هذه الحالة هو تجسير الهوّة بين الصدرين والضربتين، بين لطم الصدر كحركة ظاهرية مجتمعية لها أثرها الواضح وبين القيمة التي يجب أن تتواجد في القلب الذي يحويه ذلك الصدر.