بقلم : أحمد العجمي
التاريخ ليس صوراً وأحداثاً صامتة في الذاكرة، وليست حكايات وسرديات مرويّة ومكتوبة، وإنما هو أعمق من هذا السكون والركود، هو حركة موجيّة تحمل طاقات هائلة عند تحولها إلى سلوكيات تفهمها الشعوب وتعمل على استثمارها وجودياً وفكرياً ونضالياً.
الكثير من التاريخ طُمس ونسي وتلاشى لأنه تم تزويره أو لم يتحول إلى سلوك متجدّد يحفظ طاقته ويدفع بحركة موجاته في الزمن لتتكرس وتنتج موجات أكبر صخباً ودوائر أوسع وأعمق تأثيراً.
إن أهم قراءة للتاريخ تتمثل في سلوكيات المجتمعات والشعوب بالتعامل معه من خلال تطهيره من مظاهر السلبية والزيف والتدليس وفضح جرائمه وأكاذيبه وطغاته، وكذلك عبر تكريس احتفالية طقسية تمجد المواقف الشجاعة للتاريخ التي أظهرت الوقوف أمام الجبروت والتنمر والإجرام والظلم وحطمته.
ويعتبر الفن والأدب سلوكاً قوياً في تعامله مع التاريخ عبر الصورة، حيث تمكن من استحضاره وشحنة بطاقة تقاوم نسيانه أو تناسيه، وعلى هذا الأساس حاول الطغاة استثمار الفن والأدب في فرض صورهم على الشعوب من خلال التماثيل والصور وعبر قصائد المديح.
والفن الحقيقي والجمالي يتعامل مع التاريخ الأسطوري والواقعي من خلال بؤرة الحرية التي تشحن التاريخ بطاقة الزمن وتربطه بسيرة البحث الإنساني الدائم عن العدالة.
ويحتاج التاريخ المقاتل إلى صورة مضيئة متحركة تبث طاقتها تلاحقاً عبر الزمن، ولا يمكن أن يفوز التاريخ بهذه الصورة إلا إذا حصل على البطل الأسطوري، البطل الذي يحمل التاريخ على كتفيه ليقلبه باتجاه الشمس المعادية لبرودة الظلمة والظلم، البطل القادر على التضحية بدمه وأهله من أجل أن يعطى معنى ساطعاً للتاريخ تلمع الحرية في غصنه الأعلى؛ وهذا ما قام به الحسين بن علي حين وقف وقفة المنتصر التاريخي على الفصل القاتم من التاريخ.
كما يحتاج التاريخ إلى قوة تستنطقه وتحرك أمواجه باتجاه مسار المستقبل ليطلق أصداءه المستمرة تصدح ضد الخراب والظلم وتواصل فضحها للجرائم التي وقعت حتى لا يشعر عقل الطغيان بأنه انتصر أو أخمد صوت الحق، وحتى يظل فاقداً للطمانينة مادام صوت الحق يهز أغصان الأشجار باستمرار.
إن واقعة الطف ليست واقعة عسكرية حسمت بالسيف بل إنها بدأت بالسيف. هذه الواقعة هي مفصل لانقلاب تاريخي يضع الكلمة في مواجهة الجشع وعنف الدولة، وضد انقلاب صيغة الحكم التي أرادت أن تبنى على التوريث العائلي وعلى عدم الكفاءة والأهلية وعلى سلوك داعشي امتد إلى هدم الكعبة واستباحة المدينة.
واقعة الطف صاغت معجمها الذي يخشاه ويتجنبه الظالمون؛ مثل الحق، والعزة والكرامة والتضحية والشجاعة، وقد تكثف هذا المعجم في عبارة قالها الحسين " هيهات منا الذلّة" وبقيت هذه العبارة شعاراً تفهمه كل الشعوب المناضلة من أجل حريتها.
الاحتفالات التراجيدية العاشورية تمثل صيغة لموجات تاريخية تحتاجها الشعوب للوقوف ضد الذل والمهانة والظلم وتحيي صرخة الحرية وتحولها إلى رؤية سلوكية عالمية، فإحياء انتصار الحسين يضع الواقع أمام تساؤلات في معنى الانتصار ومعنى النقاط المشتركة بين الشعوب عبر التاريخ.
ولأن هذه الاحتفالات صورة لسلوكية تتم من خلالها قراءة التاريخ بصورة ديناميكية تبقي تنقل معركة الطف من كربلاء إلى كل عواصم العالم من خلال الذكاء الرقمي ومن خلال الفعاليات الواقعية التي تقام على شوارعها وميادينها، كما تنقل التاريخ من زمن واقعة الطف إلى القرن الواحد والعشرين بطاقة أقوى من زمنها كحلقة مضيئة في نضالات الإنسان الذي لا يجب أن ينقطع.
إن هذه الاحتفالات التراجيدة لم تعد بكائيات او أحزاناً صرفة وإنما أخذت تكرس رمزية عالمية متزايدة لصورة انتصار الكلمة على السيف، ولصورة البطل الذي تحتاج الشعوب إلى رمزيته مثل ما حدث لجيفارا في السلوك اليساري.
صار العالم ينظر إلى الإسلام من خلال ثلاث نوافذ سلوكية هي:
أولاً - نافذة الحج وهي نافذة طقسية تعبدية بحته لا تخص غير المسلمين ولا يشارك فيها غيرهم وتقام في مكان واحد.
الثانية: نافذة رمضان وهي شعائرية دينية تخص المسلمين وحدهم ولكنها تقام في مدن مختلفة من العالم.
الثالثة: نافذة عاشوراء وهذه تحمل البعد الديني والأبعاد الوجودية والسياسية والثقافية والفنية والاجتماعية؛ وهذه النافذة تلامس أحلام وتطلعات الشعوب عند نقطة رفض الطغيان والظلم وعند ظلال العزة والكرامة والمطالبة بالحرية.
لن يموت التاريخ حين تحوله الشعوب إلى سلوك استذكاري وتحفيزي وتعيد شحنه بما يحركه ليخيف الطغيان ومعجم الذل.