حسينية عبد الحي الأولى في البحرين والسدرة الثانية بجدحفص والعصفور بالشاخورة والحيّاچ الأولى بالمحرق ثم سماهيج
د. محمد حميد السلمان
كنا قد نشرنا هنا سابقاً مقالات عدة موثقة عن حُسينيات المنامة، عاصمة جزر البحرين كافة؛ وعن كيف بدأت فيها الحسينيات (المآتم) وانتشرت حتى غدت من أكثر مناطق البلاد التي تضم أكبر عدد من الحُسينيات طوال تاريخها المدوَّن. أي منذ أن ظهرت تلك الحُسينيات في بيوت الأهالي ثم في المساجد، ثم في مباني مستقلة خاصة سُميت (مأتم)، وأطلقنا عليها حُسينيات من باب شمولية المكان لكل الفعاليات الحُسينية وغيرها ليس إلا، وإن كانت تُصنع من سعف النخيل والطين والجص الأبيض بداية الأمر.
وقد حاولنا بشكل أو بآخر، وضع إجابة تقريبية عن أول الحُسينيات بالمصطلح الحديث بمبانيها المستقلة، في المنامة. إذ سجلنا وجودها مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر بتوثيق صريح وصحيح، كان أولها حُسينية البدع، وذلك بحسب وثائق الوقف التي عثُرنا عليها، وليس إعتماداً على الروايات أو بعض الكتابات غير المتخصصة. وكنا قد أشرنا إلى أن هناك حُسينيات، بالرواية وليس بالوثائق، في المنامة وخارجها، قد سبقت العاصمة في التأسيس. لذلك، سنحاول هنا توسيع إطار محاولة الإجابة، وتفصيل تلك الإشارات وذكر ما لم يتم ذكره سابقاً؛ عبر التوقف عند بعض حُسينيات المحرق وجدحفص والشاخورة وذكر بعضها في سترة أيضاً، على الأقل في الجزء الأول من هذه التغطية. ودور هذه المناطق في بداية التأسيس، مع أن الخط الأحمر الذي يوضع تحت تأريخ تأسيس تلك الحُسينيات؛ أنها كلها جاءت عن طريق الرواية وبها عنعنة كثيرة، وليس بها توثيق عن طريق بعض الأوقاف المكتوبة في المنامة، كما ذكرنا ذلك مراراً. وإن كنا نعترف سلفاً؛ بأن التوثيق لمثل هذه الحُسينيات وغيرها، أو لمواكب عزاء دون وجود حُسينيات لها؛ أمراً ليس في متناول اليد حالياً دون العثور على وثائق جلَّية تُثبت ذلك.
هناك روايات عن أقدمية بعض حُسينيات البحرين، ما زالت تعتمد على وجود بعض المواقع الدينية كانت تُستخدم لغرضين في الوقت ذاته، أي مسجد وحُسينية أو (مأتم) بالمعني البسيط للخطابة الحُسينية، وهذه لا تدخل ضمن دراستنا عن المباني التي أُسست لتكون حُسينية فقط لا غير، وإلا كنا شملنا مسجد السيد فلاح بالسنابس، الذي كان يُصلي فيه تاجر اللؤلؤ والوجيه المعروف في القرنين التاسع عشر والعشرين، أحمد بن خميس، وأقام فيه المجالس الحُسينية قبل تأسيس حُسينية بن خميس في العقد السابع من القرن التاسع عشر للميلاد، كما ذكرنا ذلك تفصيلاً في كتاب (قمر السنابس).
إلا أن المُلاحظ في الأمر؛ وجود تنافس شديد جداً بين بعض الحُسينيات في المحرق والشاخورة وجدحفص وسترة وغيرها، من حيث التأسيس، إذ يعود الوضع ببعضها إلى سنوات القرن الثامن عشر، أو سنوات مبكرة من القرن التاسع عشر للميلاد بحسب روايات التأسيس عند بعض الأهالي هنا وهناك. مثل الرواية التي تذكر بأن أقدم حسينيات البحرين تاريخيًا، هي حسينية آل عبد الحي في السنابس، والعهدة على الراوي الذي يذكر بأنها تعود لعام 1140هـ/ 1719، اعتماداً على تاريخ مدوّن على منبر ما زال مُستخدماً للخطابة في الحُسينية!!، وهو على أية حال منبر حديث الصنع وليس قديم. بل تُضيف هذه الرواية أمراً آخر؛ فتذكر أن دليل قدم وجود هذه الحُسينية، يتمثل أيضاً في ورقة مصحف قديم جدًا كان يتم التلاوة منه في الحُسينية. وهذا المصحف كُتب بخط الشيخ حسن بن علي بن محمد آل عبد الحي، وكتبه في جزيرة "جسجوس"، الواقعة بين المنطقة الشرقية لشبه الجزيرة العربية وجزر البحرين، وكان ذلك عام 1146هـ (1733م). أو حُسينية العلامة الشيخ حسين آل عصفور عام (1191هـ/ 1771م)، كما هو مدون على مبناها الجديد، وكانت تقع مع مدرسة العلامة الدينية؛ في قرية الشاخورة الحالية.
بينما تقول رواية أخرى متداولة في أكثر من موقع؛ بأن جدحفص، والتي ضمها بالخطأ الأثاري النَّقِيب (Edward Law Durand) الذي كان يحمل رتبة عسكرية ثالثة على مستوى الضباط، ويَشغل منصب المساعد الأول للمقيم السياسي في "بوشهر"، ويعمل في خدمة التاج البريطاني، حين انتقل إلى البحرين في مهمة لاستكشاف هذه الجزيرة وإعداد تقارير عن أهميتها من الناحية الآثارية عام 1878. وزار حينها منطقة البلاد القديم عاصمة البحرين قبل المنامة؛ وجدحفص. القصد هو أن جدحفص كان بها مواقع تُستخدم لغرضين دينين معاً؛ مثل جامع وحسينية السدرة أي سدرة (اللوز). ويعتقد الأهالي هناك بأنه من أقدم حُسينيات منطقة جدحفص، إذ ظهر قبل حوالى 400 سنة! هكذا برقم مُطلق. وكانت تُقام في (اللوزة) صلوات الجمعة والجماعة وبعض الدروس الحوزوية، وذلك في الحقبة، كما تُشير الرواية، التي سبقت تولّي العلامة الشيخ أحمد بن عبدالرضا الحرز لسلطاته الشرعية الدينية بجدحفص بعد رحيل العلامة الشيخ أحمد بن العلامة الشيخ علي الحكيم!!. كما يُعدُّ جامع (اللوزة) إحدى المدارس العلمية الدينية الخَمس بجدحفص والبحرين. وقد أُستخدمَ بشكل حُسينية لعقد مجالس العزاء في عشرة محرم وما يليها وشهر صفر، حتى تم التفريق بين الجامع والحُسينية بنقل الصلوات إلى جامع جدحفص الحالي (المُشرَّف) عام ١٩١٢، ومن ثم نُقلت الحُسينية إلى مدرسة الشيخ داوود بن أبي شافيز، ولكن بقيت التسمية تتبع بالأساس لحسينية السدرة (اللوزة).
وبما أننا في جدحفص، فلنطرح الرواية الجدحفصية التي تذكر بأن هناك عدة حُسينيات كذلك في المنطقة لها أقدمية تاريخية، مثل حُسينية أو (مأتم سلامة)، وهوقريب من عين سلامة بفريق السوق القديم. ويختلف بعض الأهالي في نَسب "سلامة" تلك، فبعضهم يقول بأنها والدة السيد ماجد بن السيد أحمد الجدحفصي، والآخر يقول، بل هي شقيقة رُقية ابنة الشيخ أحمد بن عبدالنبي بن السيد ماجد، وكان الزعيم الديني للبلاد القديم حينها. ويُعدُّون حسينية أو (مأتم سلامة)، من أشهر حُسينيات جدحفص القديمة إذ نشأت قبل 240 أو 300 سنة. وبها آثار تاريخية استخرجها، كما يقول حسن الحلال، المُنقب الآثاري الذي ذكرناه، وهو النَّقِيب (إدوارد ديوراند) في خلال زيارته التنقيبية للمنطقة عام 1878. كان اهتمامه مُنصباً تحديداً على تلال المدافن القديمة هناك، فلفت انتباهه موضوع إعادة استخدام الأهالي لبعض الحجارة الأثرية القديمة في بناء بعض المساجد. وبعد بحث وتقصي، سمع عن وجود حجر من البازلت الأسود يشبه الحذاء مطموراً في مسجد مدرسة الشيخ داوود بن أبي شافيز في فريق السلطاني بجدحفص. وجدحفص كانت في الأزمنة القديمة ساحلية الإمتداد ومهمة سياسياً، واستمرت كذلك حتى عهد آل مذكور في الربع الأخير من القرن الثامن عشر. فتوجه النَّقِيب (ديوراند) إلى ذاك المسجد، وعثر على الحجر الأسود، ووجد به نقش غير مفهوم، لكنه أدرك على الفور بحسه الآثاري، أن الحجر ذو أهمية أثرية عُظمى، إذ توجد عليه كتابة مسمارية وعلى يسارها نقش لسعفة نخيل. ولكي يتمكن من أخذه من المسجد، أخبر قيّم المسجد، أن هذا الحجر وثن ويخص عبدة النار ويجب أن يُزال من مسجد الصلاة حالاً. وليثبت حسن نيته في الأمر، قام بالتبرع بمبلغ من المال لترميم المسجد. وأمر العُمال بإزالة الحجر، فتم نقلهُ إلى مقر إقامة النَّقِيب (ديوراند). ولا مجال هنا لتتبع مصير ذاك الحجر وماذا حدث له وأين هو الآن إن كان ما يزال موجوداً؟ فهذا خارج الموضوع.
لكن للعلم فقط، فإن هذا الحَجر الأسود، كما في الصورة المُصاحبة، هو قطعة أثرية بحرينية، يعود تاريخها إلى الحقبة ما بين سنوات (1600-1155) ق.م، وتوازي ما يًسمى بالحقبة (الكيشية)، إن صحت المعلومة والإجابة عند أهل الإختصاص. والحَجرعبارة عن منحوتة من البازلت الأسود، بعرض 25-30 سم وطول 70-80 سم، وعلى شكل مقدمة قارب أو لسان حيوان، مع نقش مسماري به. وتمت ترجمة النقش المكتوب بالخط المسماري القديم، بهذا الشكل: "قصر رمم ، خادم (الإله) إنزاك، (و) رجل (قبيلة) أگاروم". واعتقد النَّقِيب (ديوراند) أن ذاك الحَجر سيُقدم أدلة أثرية على أن جزر البحرين ربما كانت موطن حضارة "دلمون" التي أشار إليها الأدب السومري. وهناك حكاية متداولة في تراث مدينة جدحفص عن "القدور" الثلاثة لمأتم سلامة، لا مجال لذكرها هنا. كما يُضيفون، أن لهذا المأتم الكثير من الكرامات شهدها أهالي المنطقة و من حولها.
وكانت تُقام في مأتم أو حُسينية (سلامة) المجالس الحُسينية للرجال والنساء في بدايته الأولى. وتوجد رواية عنه أُدخل فيها اسم السيد محمد بن السيد ماجد الجدحفصي، عندما ذهب الى شيراز وجاء بوثيقة الحُسينية وسلمها للمسؤلين عنها (متى لا نعلم؟)، فاحتفظ بها أولئك المسؤلين حينها في سرداب الحُسينية، مما أدي لتأثرها بالماء والرطوبة، فقام بترميمها واعادة صياغتها الملا مسعود سند، وهو من أوائل المدرسين بمدرسة الخميس (المباركة العلوية)، في نهاية عشرينيات القرن الماضي.
أما بشأن بعض حُسينيات جزيرة المحرق، فسنقف في الجزء الأول، عند أقدمها رواية من حيث السنوات. إذ كان يوجد العشرات من الحُسينيات في مناطق جزيرة المحرق بين نساء ورجال، لم يتبقى منها الكثير اليوم يبن رجالية ونسائية. إلا أننا ننوه، بأن هناك حُسينيتين في فريق البنائين باسم الزهراء (ع).
حُسينية الحيّاچ: تذكر الرواية على لسان عيسى الحايكي، أن حُسينية عيسى بن أحمد الحايكي، أي جده الأكبر، تأسست حوالى عام 1788م؛ وهي أول حُسينية شيدت في فريق الحياچ وعلى مستوى جزيرة المحرق على الإطلاق. و قد تأسست الحُسينية في قسم من بيت عيسى بن أحمد بن منصور بن حسين بن دحيم مهيان الهاجري الحايكي، المتوفي عام 1310 هـ (1892م)!!.
أما الحُسينية الأخرى للحيّاچ، فهي حُسينية علي بن أحمد الحايكي، التي تأسست بعد أن استقل في بيت خاص به، فشيد عليه حُسينيتة المسماة باسمه، عام 1264هـ (1848م)، كما هو مدون على جدار بوابتها اليوم، انظر الصورة. وغدت هي الحُسينية الثانية للحيّاچ، ولكن لم تكن الثانية من حيث التأسيس، استناداً إلى روايات تأسيس غيرها.
إذ أنه في سماهيج الكبرى، إن جاز التعبير، وكان أهاليها قبل وجود الحُسينيات يُحيون مجالس العزاء الحُسيني في المساجد والمنازل والبساتين كعادة أهل البحرين عموما في الأزمنة القديمة؛ قام محسن بن حسن الغنامي ومعه أحمد بن يوسف، ومحمد بن مطر، وأولاد عبدالله، كما تذكر الرواية الديرية، بتأسيس مأتم الدير الغربي الذي يُعدُّ من أقدم حُسينيات الدير، قبل عام 1845م. ويُضيف على هذا د. علي هلال، في كتابه الدير سيرة ذاتية، بأن مجالس العزاء الحُسينية وغيرها عامة؛ كانت تُقام في الجامع الغربي في الدير منذ تأسيسه (لا يوجد تأريخ عنده لذلك)، وقد نصح بعض علماء الدين أهالي الدير بضرورة تخصيص مبنى للحُسينية مستقل بذاته لها. فتبنى هذه الدعوة محسن بن حسن الغنامي فأسس حُسينية خلف الجامع مباشرة وأطلق عليها الأهالي (حُسينية الحاج محسن). أُقيمت فيها مجالس حُسينية على يد مجموعة من الخطباء من الأحساء، وكذلك ضمت مناسبات الاحتفال بمواليد أهل البيت (ع). ومع الأيام والسنوات وبسبب ضعف قوة محسن الغنامي؛ تولى إدارة الحُسينية رجلٌ يُسمى عبدالرضا، كان من الخطباء المميزين فيها، ولم يذكر هلال، من هو هذا عبد الرضا! وغدت الحُسينية مؤسسة واسعة تُساهم في نشر الوعي الإسلامي عامة.
كما أنه في سماهيج كذلك واعتماداً على الرواية، يوجد حُسينية الجنمة (الشمالي) (الجَنمة نوع من أنواع السمك المحلي في البحرين)، بُنيت عام 1845م، على يد حسين بن خاتم بن سلمان، ويُطلق عليه، كما يذكر محمد السماهيجي، مأتم العالي أو بن خاتم. لأن من قام بالتأسيس والإدارة عائلة بن خاتم العريقة، بعد أن نزحت إلى سماهيج من قرية "كرزكان" منذ زمن بعيد، وقام المؤسس في بداية الأمر ببناء الحُسينية في جزء من منزله. وتقع بجانب أشهر مزارع أو دواليب المحرق والبحرين (دولاب التينة)، وما زالت عائلة المؤسس متكفلين بإدارتها إلى اليوم.
كما يوجد، كما يذكر د. حسين السماهيجي، حُسينية باسم محمدعلي بن يوسف الجزيري تأسست عام 1846م، ثم تحولت في الخمسينيات من القرن العشرين، بعد توقف الخطابة بها، الى حُسينية للنساء، ولهذا بحث آخر.
إلا أن أشهر حُسينية تاريخياً في سماهيج، هي حُسينية علي بن حسين (حُسينية النواخذة) أو حُسينية سماهيج الكبيرة للرجال، أسسها الجد الأكبر. للعائلة عام 1895م، توفي عام 1945م تقريبا. بعد أن قام ببناء مسجد وحُسينية ضمن مساحة البيت الكبير الذي كان يعيش فيه هو وأفراد عائلته كلها من آباء وإخوان وأبناء، وقد استخدم في البناء الحجارة البحرية والجص الأبيض والطين.