رفض الحسين للبيعة، يمثل مقاومة ضد محاولة يزيد القضاء على ما تبقى من الشرعية السياسية والمعنوية للمدينة
بقلم : الشيخ حميد المبارك
ليس هذا المقال تحقيقاً تاريخياً ولا بحثاً عقائدياً، وإنما هو إشارات تهدف إلى فهم نهضة كربلاء ضمن الأطُر العامة في السيرة العقلائية، وفي سيرة النبي والأئمة قبل وبعد الحسين.
ولأن الشواهد الذي ذكرها أهل السِّيَر، قد تكون في الأصل مُحتفّة بالقرائن والسياقات التاريخية، والتي لو وصلت إلينا، لكان لها تأثير على الاستنتاج، فإن هذا المقال لا يسوق تلك المرويات كأدلة، وإنما تنبيهاً على تلك الأطُر العامة المشار إليها، وترسيخاً لمبدء فهم السيرة وفق الغاية المناسبة لظاهر الحدث، دون اللجوء إلى التأويل إلا بحجة قطعية.
ولابد من التنبيه على إن محاولة هذه المقالة تفسير كربلاء وفق المُعطيات الظاهرية، لا يتنافى مع العقيدة الشيعية في الامام وعصمته وعلمه، ولا تعكس اتجاهاً عقائدياً خاصّاً. وإنما هي عرض لإمكان هذا النوع من القراءة، والذي يمكن أن ينسجم مع كل الاتجاهات المذهبية المختلفة أيديولوجياً. والتاريخ شاهد بأن المواقف السياسية للنبي والأئمة لا تخرج عن الأمر العقلائي في موازنة القوى، والمعطيات الواقعية للأحداث.
المستشار.
وكان مستشار يزيد الذي استند إليه في الاجراءات الأولى بعد استلامه السلطة، مثل تولية عبيد بن زياد، والتشديد في أخذ البيعة، هو نفسه الذي كان مستشار أبيه، وهو سَرْجُون بن منصور الرومي، المتوفى ٨٦ هجرية. ثم كان ابنه بعده وهو "يوحنّا الدمشقي" مستشاراً في القصر الأموي. ومن خلال إلقاء الضوء على سيرة سرجون وابنه، ينفتح باب احتمال آخر، مضافاً إلى المكر السياسي، وهو الأجندة الدينية!
فقد ذكروا أن سرجون كان كاتب يزيد عَلَى الخراج والجند. وقد تولّى ذلك في الشام خدمة لخمس من الخلفاء، بدءاً من معاوية بن ابي سفيان، ثم يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية. وبعد ذلك، مروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان. وبقي يشرف على الديوان لنصف قرن من الزمن، وتقدّر فترة استلامه أمر الديوان بداية سنة ٥١ هـجرية (٦٥٠ ميلادية)، وانتهت على ما يبدو حينما بادر عبد الملك إلى تعريب المكاتبات الحكومية والديوان المالي سنة ٧٠٠ م.
وأما ابنه يوحنا الدمشقي، فقد قيل فيه: يوحنا، منصور بن سرجون عام ٦٧٦ ميلادية في دمشق خلال الدولة الأموية، من عائلة مسيحية نافذة، إذ كان والده يعمل وزيرًا في بلاط الشام. وقد شغل يوحنا الدمشقي نفسه هذه الوظيفة فترة من الزمن، ومن ثم دخل إلى دير القديس سابا قرب القدس فلسطين بعد بداية خلافة هشام بن عبد الملك. وقد جمعته صداقة معه ومع عدد من الخلفاء قبله. وتميز يوحنا بمؤلفاته اللاهوتية الفلسفية العديدة ودفاعه الشديد عن الاعتقاد المسيحي. وقد شكّلت مؤلفاته مرجعًا مهمًا لجميع لاهوتي القرون الوسطى، حتى إن توما الإكويني يستشهد به في مؤلفاته، كما ألف عددًا من الترانيم الكنسية المعروفة في طقوس الكنيسة البيزنطية. وكان يوحنا الدمشقي يشارك في مناظرات بما فيها تلك التي تجري في قصر الخليفة، وشُهد له أنه كان يعرف القرآن بشكل جيد، في حين أن الحديث لم يكن قد جُمِع بعد. وقد وُصِف بأنه «أبرز مفاخر الكنيسة السورية في ظل الدولة الأموية». ومن مؤلفاته "الهراطقة"، والذي قدّم خلاله شرحًا وافيًا لمختلف الطوائف المسيحية التي اعتبرها خارجة عن الايمان الصحيح، مفندًا إياها. وتطرق في الفصل ١٠١ من كتابه إلى ما يسميه «هرطقة الإسماعيليين» ويقصد بها الإسلام، فإنه اعتبر الاسلام ضمن الهرطقات المسيحية.
عبيد الله بن زياد.
هذا عن سرجون وابنه يوحنا، أما عن عبيد الله بن زياد، فهل كان قرشياً؟ أم كان أبوه عبداً؟ وهل كانت أمه سمية أَمَة؟ وهل له صلة بالروم من جهة أحد والديه؟ قاله بعضهم، والأمر فيه غامض. لكنه يبقى في دائرة الاحتمال. ويُحتمل أن سرجون كان يعلم شيئاً عن نسبه الحقيقي.
ونُقل عن عمر بن عبد البر في كتاب "الاستيعاب" عن ابن عباس: أن عمر بعث زياداً في إصلاح فساد واقع باليمن، فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبة لم يُسمَع مثلُها، وأبو سفيان حاضر، وعلي، وعمرو بن العاص، فقال عمرو بن العاص: لله أبو هذا الغلام لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه، فقال أبو سفيان: إنه لقرشي وإني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه. فقال علي عليه السلام: «ومن هو»؟ قال: أنا. فقال عليه السلام: «مهلا يا أبا سفيان». انتهى. وعليه، لم يكن زياد والد عبيد الله قرشياً، إلا من حيث ادعاء أبي سفيان له.
إجراءات يزيد في إحكام سلطته، ومقاومة الحسين.
وقد بدأ يزيد، بدعم من مستشاره، سرجون، محاولات تأكيد سيطرته على الوضع، خصوصاً مع حصول بعض الضعف والاختلال في السلطة المركزية في الشام بعد موت معاوية. ويشهد لذلك الاختلال، ما حصل لاحقاً، وهو ثورة عبد الله بن الزبير، وتمكنه من الحجاز لفترة. وكان أول الخطوات التي اتخذها يزيد، التشديد في أخذ البيعة من أهل المدينة عامة، ومن جماعة معيّنة خصوصاً، في محاولة للقضاء على ما تبقى من آثار البيت النبوي وكذلك الخلافة الأولى، والتي كانت تمثّل التأثير السياسي والمعنوي في المدينة. وكان ذلك التأثير مستقلاً، إلى حد كبير، عن سلطة بني أمية في الشام.
وفي الرواية: ثمّ أرفق يزيد الكتاب إلى واليه على المدينة، بصحيفة صغيرة فيها: خُذ الحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، بالبيعة أخذاً شديداً، ومَن أبى فاضربْ عنقه، وابعث إليَّ برأسه. انتهى.
فكان خوف يزيد من هؤلاء، من حيث هم ومن حيث آباءهم. فإن ثلاثة منهم أبناء خلفاء سابقين، أولهم الحسين بن علي، ثم عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، والرابع وهو عبد الله بن الزبير، والده أحد الستة الذين رشحهم عمر للخلافة وابن عمة النبي صفية بنت عبد المطلب، ووالدته أسماء بنت بنت ابي بكر. وكان الحسين أكثر هؤلاء تأثيراً، لشرفه وفضله، ولانتسابه إلى النبي والامام علي. وبعده عبد الله ابن الزبير الذي كان نشطاً سياسياً أكثر من عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر. ولذلك كان الحسين وعبد الله بن الزبير أول من بعث الوالي إليهما.
وفي الرواية: أنه بعث إليهما نصف الليل، رجاء أنْ يغتنم الفرصة بمبايعتهما قبل النّاس، فوجدهما رسوله عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان بن عفّان في مسجد النّبي (ص)، ووضّح لابن الزبير ما عزم عليه الحسين من ملاقاة الوالي في ذلك الوقت، فأشار عليه بالترك حذار الغيلة، فعرّفه الحسين (ع) القدرة على الامتناع. (وأرجو من القارئ التوقف عند كلمة: القدرة على الامتناع). وصار إليه الحسين في ثلاثين من مواليه وأهل بيته وشيعته، شاكين بالسّلاح، ليكونوا على الباب فيمنعونه إذا علا صوته، وبيده قضيب رسول الله (ص). ولمّا استقرّ المجلس بأبي عبد الله (ع)، نعى الوليد إليه معاوية، ثم عرض عليه البيعة ليزيد، فقال (ع): مثلي لا يبايع سرّاً، فإذا دعوتَ النّاس إلى البيعة دعوتنا معهم، فكان أمراً واحداً. فاقتنع الوليد منه، لكن مروان ابتدر قائلاً: إن فارقك السّاعة ولم يبايع، لم تقدر منه على مثلها حتّى تكثر القتلى بينكم، ولكن احبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عنقه. انتهى.
وأقول: لو كان الحسين رفض البيعة لمجرد الصفات التي ذكرها في يزيد، فماذا عن التقية التي سلكها الباقون من الأئمة مع الخلفاء الذين لا يقلّون مجوناً عن يزيد؟ إذن لابد من وجود فارق، وهو المِنعة أو القدرة على الامتناع، والذي كان متوافراً ظاهرياً للحسين.
وهذا، أي القدرة على الامتناع، ما يشهد به سياق كلامه للوليد، حسب الرواية: ثم أقبل (ع) على الوليد وقال: أيها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل شارب الخمور، وقاتل النّفس المحرَّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة. انتهى.
وكان رفض الحسين للبيعة، يمثل مقاومة ضد محاولة يزيد القضاء على ما تبقى من الشرعية السياسية والمعنوية للمدينة بنحو عام، والبيت العلوي بنحو خاص. لكنه في سياق وجود قوة ظاهرية اجتماعياً ودينياً يحظى بها الحسين. وكانت هذه المِنْعة الظاهرية إلى حين قارب العراق، وبعد ذلك لم يكن له خيار الرجوع. وفي هذا السياق، يمكن القول بأنه لم يكن خروج الحسين من المدينة إلى مكة هروباً إلى الموت، بل كان طلباً للقدرة على الامتناع، ثم هُدّد في مكة وجاءته الرسائل من الكوفة، فخرج إليها طلبا للمِنعة أيضاً. فلم يكن خروجه من مكة إلى العراق إلا بعد توافد الرسائل منها. وأما تغيّر موازين القوى لاحقاً فهو ممكن وحاصل في كثير من المعارك، حتى تلك التي يُخطَّط لها جيداً، فقد تحصل عوامل مستجدة لم تكن في السياق الطبيعي المُتوَّقع لسير الأحداث.
... يتبع