رسائل اهل الكوفة للحسين : إنّ النّاس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل يابن رسول الله، فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار
بقلم : الشيخ حميد المبارك
ليس هذا المقال تحقيقاً تاريخياً ولا بحثاً عقائدياً، وإنما هو إشارات تهدف إلى فهم نهضة كربلاء ضمن الأطُر العامة في السيرة العقلائية، وفي سيرة النبي والأئمة قبل وبعد الحسين.
ولأن الشواهد الذي ذكرها أهل السِّيَر، قد تكون في الأصل مُحتفّة بالقرائن والسياقات التاريخية، والتي لو وصلت إلينا، لكان لها تأثير على الاستنتاج، فإن هذا المقال لا يسوق تلك المرويات كأدلة، وإنما تنبيهاً على تلك الأطُر العامة المشار إليها، وترسيخاً لمبدء فهم السيرة وفق الغاية المناسبة لظاهر الحدث، دون اللجوء إلى التأويل إلا بحجة قطعية.
ولابد من التنبيه على إن محاولة هذه المقالة تفسير كربلاء وفق المُعطيات الظاهرية، لا يتنافى مع العقيدة الشيعية في الامام وعصمته وعلمه، ولا تعكس اتجاهاً عقائدياً خاصّاً. وإنما هي عرض لإمكان هذا النوع من القراءة، والذي يمكن أن ينسجم مع كل الاتجاهات المذهبية المختلفة أيديولوجياً. والتاريخ شاهد بأن المواقف السياسية للنبي والأئمة لا تخرج عن الأمر العقلائي في موازنة القوى، والمعطيات الواقعية للأحداث.
جوابات الحسين عن الكتب التي وافته في مكة.
في السِّيَر: وفي مكّة وافته كتب أهل الكوفة من الرجل والاثنين والثلاثة والأربعة، يسألونه القدوم عليهم؛ لأنّهم بغير إمام، ولم يجتمعوا مع النّعمان بن بشير في جمعة ولا جماعة، وتكاثرت عليه الكتب حتّى ورد عليه في يوم واحد ستمئة كتاب، واجتمع عنده من نوب متفرّقة إثنا عشر ألف كتاب وفي كلّ ذلك يشددون الطلب وهو لا يجيبهم. وآخر كتاب ورد عليه من شبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، وعزرة بن قيس، وعمرو بن الحجّاج، ومحمد بن عُمَير ابن عطارد، وفيه: إنّ النّاس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل يابن رسول الله، فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار. فأقدم إذا شئت، فإنّما تقدم على جند لك مجنّدة. ولمّا اجتمع عند الحسين ما ملأ خرجين، كتب إليهم كتاباً واحداً دفعه إلى هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي وكانا آخر الرُسُل، وصورته: بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين أمّا بعد، فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم ـ وكانا آخر مَن قدِم عليَّ من رُسُلكم ـ وقد فهمتُ كلّ الذي قصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم أنّه ليس علينا إمام فأقبِل لعلَّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أنْ يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإنْ كتب أنّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قَدِمت عليَّ به رُسُلكم وقرأتُ في كتبكم، أقدِم عليكم وشيكاً إنْ شاء الله، فلعَمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحقّ والحابس نفسَه على ذات الله، والسّلام. ثمّ دفع الكتاب إلى مسلم بن عقيل، وقال له: إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي الله من أمرك ما يُحبّ ويرضى، وأنا أرجو أنْ أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامضِ ببركة الله وعونه، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها. انتهى.
ومجمل كلام الامام في الرسالة، وبالخصوص، قوله: "فإنْ كتب أنّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قَدِمت عليَّ به رُسُلكم وقرأتُ في كتبكم، أقدِم عليكم وشيكاً إنْ شاء الله"، واضح في التثبت من وضع الكوفة، وإجماع ذوي الرأي فيها على مبايعته، ويؤكّد أنه كان يسيّر حركته على وفق المعطيات الخارجية.
وأما خطابه لمسلم في رجاء درجة الشهادة، فهو، إن لم يكن أُضيف من الرواة، ليس إخباراً لمسلم بأنه سيُقتل في مهمته، إذ كيف يُرسَل رسول لمهمة يُرجى منه إتمامها، ثم يقال له سلفاً، صراحة أو ضمناً،،بأنه مقتول!؟ ومن المتعارف أن يتمنى الذاهبون إلى الجهاد درجة الشهداء، لكنه يختلف عن إخباره بأنه مقتول.
مبايعة أهل الكوفة لمسلم بن عقيل.
في السِّيَر: وأقبلت الشيعة يبايعون مسلم بن عقيل، حتّى أحصى ديوانه ثمانية عشر ألفاً، وقيل بلغ خمساً وعشرين ألفاً، وفي حديث الشعبي بلغ مَن بايعه أربعين ألفاً، فكتب مسلم إلى الحسين مع عابس بن شبيب الشاكري، يخبره باجتماع أهل الكوفة على طاعته وانتظارهم لقدومه، وفيه يقول: الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي. وكان ذلك قبل مقتل مسلم بسبع وعشرين ليلة.
وانضم إليه كتاب أهل الكوفة وفيه : عجّل القدوم يابن رسول الله، فانّ لك بالكوفة مئة ألف سيف فلا تتأخر. وقد جاء في رسالة مسلم للإمام (عليه السّلام): أَمّا بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشَر ألفاً، فعجّل حين يأتيك كتابي، فإنّ النّاس كلَّهُم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى. انتهى.
ويؤكد اختلال الوضع الأموي في الكوفة، حتى بعد قدوم عبيد الله بن زياد إليها، والتدابير التي قام بها، ما ذكروه في زيارته لهاني بن عروة و شريك بن الأعور: ومرض هاني بن عروة، فجاء عبيد الله عائدا له، فقال له عمارة بن عبيد السلولي: انما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية فقد أمكنك الله منه فاقتله، قال هاني: ما أحب أن يقتل في داري، فخرج فما مكث الا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور، وكان كريماً على ابن زياد وعلى غيره من الامراء، وكان شديد التشيع فأرسل إليه عبيد الله إني رائح إليك العشية. فقال لمسلم: ان هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس فاخرج إليه فاقتله ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن برئت من وجعي هذا أيامي هذه، سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها، فلما كان من العشى اقبل عبيد الله لعيادة شريك. انتهى.
وواضح من سياق الحوار، أن المانع الوحيد عن تمكن مسلم من الكوفة هو وجود عبيد الله بن زياد فيها.
يتبع