رفض الرأي الذي يجعل من نهضة كربلاء ذريعة للتحركات التي لا تدرس الواقع المحيط ولا تجعل معطياته في الحُسبان
مع تغيّر موازين القوى أن تلك النهضة ابتنت على التقوى الخالصة وتقديم إرادة الله على إيثار العافية
بقلم : الشيخ حميد المبارك
ليس هذا المقال تحقيقاً تاريخياً ولا بحثاً عقائدياً، وإنما هو إشارات تهدف إلى فهم نهضة كربلاء ضمن الأطُر العامة في السيرة العقلائية، وفي سيرة النبي والأئمة قبل وبعد الحسين.
ولأن الشواهد الذي ذكرها أهل السِّيَر، قد تكون في الأصل مُحتفّة بالقرائن والسياقات التاريخية، والتي لو وصلت إلينا، لكان لها تأثير على الاستنتاج، فإن هذا المقال لا يسوق تلك المرويات كأدلة، وإنما تنبيهاً على تلك الأطُر العامة المشار إليها، وترسيخاً لمبدء فهم السيرة وفق الغاية المناسبة لظاهر الحدث، دون اللجوء إلى التأويل إلا بحجة قطعية.
ولابد من التنبيه على إن محاولة هذه المقالة تفسير كربلاء وفق المُعطيات الظاهرية، لا يتنافى مع العقيدة الشيعية في الامام وعصمته وعلمه، ولا تعكس اتجاهاً عقائدياً خاصّاً. وإنما هي عرض لإمكان هذا النوع من القراءة، والذي يمكن أن ينسجم مع كل الاتجاهات المذهبية المختلفة أيديولوجياً. والتاريخ شاهد بأن المواقف السياسية للنبي والأئمة لا تخرج عن الأمر العقلائي في موازنة القوى، والمعطيات الواقعية للأحداث.
ظهور مُعطى جديد. طلب النزول على حكم ابن زياد.
ويبدو من السياقات ظهور معطى جديد إلى العلن، وهو عزم ابن زياد على إذلال الحسين والتنكيل به، مهما كانت العروض التي يقدمها الامام. وقد اختار أنصاره واهل بيته أن لا يتركوه وحيدا. وهذا أمر معقول ومشروع بالنسبة إليهم.
وهذا المُعطى واضح في التعابير التي استخدمها ابن زياد، حسب الرواية، في كتابه إلى الحسين،: وبعث الحرّ إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين في كربلاء، فكتب ابن زياد إلى الحسين: أمّا بعد، يا حسين فقد بلغني نزولك كربلاء، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أنْ لا أتوسّد الوثير، ولا أشبع من الخمير أو اُلحقك باللطيف الخبير، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد، والسّلام. ولمّا قرأ الحسين الكتاب رماه من يده وقال: «لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق!». وطالبه الرسول بالجواب، فقال : «ما له عندي جواب؛ لأنّه حقّت عليه كلمة العذاب». انتهى.
وكان قول ابن زياد "أو تنزل على حكمي وحكم يزيد"، مصطلحاً سياسياً في ذلك الوقت، وهو يعني موافقة الطرف الآخر على الاستسلام لارادة الآخر، وأن له أن يحكم فيه مايشاء. وبناء عليه، لم تعُد بيعة الحسين بيعة وإنما استسلاماً، وأن للطرف أن يقتله وأن يضعه تحت الاذلال. وكانت هذه النية، أي إذلال الحسين والتنكيل به مهما استجد في موقفه، مُبيّتة لدى ابن زياد، كما يظهر من لحن خطاباته لعمر بن سعد. قال أهل السِّيَر: فقال ابن زياد: لستُ استأمرك فيمن أُريد أن أبعث، فإن سرت بجندنا، وإلاّ فابعث إلينا عهدنا، فلمّا رآه ملحّاً قال: إنّي سائر. فأقبل في أربعة آلاف وانضمّ إليه الحرّ فيمن معه. فدعا عمر بن سعد قرّة بن قيس الحنظلي ليسأل الحسين، ولمّا أبلغه رسالة ابن سعد، قال أبو عبد الله «إنّ أهل مصركم كتبوا إليَّ أنْ اقدم علينا، فأمّا إذا كرهتموني انصرفتُ عنكم». فرجع بذلك إلى ابن سعد، وكتب إلى ابن زياد بما يقول الحسين، فأتاه جوابه: أمّا بعد، فاعرض على الحسين وأصحابه البيعة ليزيد، فإنْ فعل رأينا رأينا. انتهى.
ولك أن تتخيل، أيها القارئ العزيز، ما يبطنه قول ابن زياد: فإن فعل، أي بايع يزيد، رأيْنا رأيَنا!. وفي تطور آخر: وكتب ابن سعد إلى ابن زياد زعماً منه أنّ فيه صلاح الاُمّة وجمال النظام، فقال في كتابه: أمّا بعد فإنّ الله أطفأ النّائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الاُمّة، وهذا حسين أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أنْ يسير إلى ثغر من الثغور، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أنْ يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا رضىً لكم وللاُمّة صلاح. ولمّا قرأ ابن زياد كتاب ابن سعد قال: هذا كتاب ناصح مشفق على قومه. وأراد أن يجيبه، فقام الشمر، وقال: أتقبل هذا منه بعد أنْ نزل بأرضك؟ والله لئن رحل من بلادك ولَم يضع يده في يدك، ليكونّن أولى بالقوّة وتكون أولى بالضعف والوهن. فاستصوب رأيه وكتب إلى ابن سعد: أمّا بعد، إنّي لَم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنيه السّلامة، ولا لتكون له عندي شفيعاً. اُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على حكمي، فابعث بهم إليَّ سِلماً. وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإنْ قُتل حسين فاوطىء الخيل صدره وظهره، ولستُ أرى أنّه يُضرّ بعد الموت، ولكن على قول قلته: لَو قتلتُه لفعلتُ هذا به. فإنْ أنت مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السّامع المطيع، وإنْ أبيتَ فاعتزل عملنا وجندنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بذلك. انتهى.
وتلاحظ في هذا السياق أنه لم يعد المطلوب من الحسين أن يبايع ويمضي بسلام، بل أن ينزل على حكم ابن زياد. أي يحكم في شأنه ما يشاء مهما كان موقف الحسين. وفي هذا دلالة واضحة على قصده الخبيث، وجعل الحسين عِبرة لكل من تسوّل له نفسه الخروج على يزيد. ويشهد لما في نفسه من قصد الزجر، وكذلك الغيظ، قوله: فإنْ قُتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره.
المشهد الأخير.
ويأتي في هذا السّياق، ما نُقل في سياق خطبتي الحسين يوم عاشوراء، من تأكيد الامام على رفض أن يُعطي بيده إعطاء الذليل: فنادى:«يا شبث بن ربعي، ويا حَجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إليَّ أنْ اقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟». فقالو: لَم نفعل. قال: «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم». ثمّ قال: «أيّها النّاس، إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض». فقال له قَيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لَن يروك إلاّ ما تُحبّ ولَن يصل إليك منهم مكروه. فقال الحسين (عليه السّلام): «أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد، عباد الله إنّي عذتُ بربّي وربّكم أنْ ترجمون. أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبِّر لا يؤمن بيوم الحساب. انتهى.
وفي الخطبة الثانية: تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم. فهلاّ ـ لكم الويلات! ـ تركتمونا والسّيف مشيم والجأش طامن والرأي لَما يستحصف، ولكنْ أسرعتم إليها كطيرة الدبا وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها. فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرّفي الكلِم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئيّ السّنَن! ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون! أجل والله غدر فيكم قديم وشجت عليه اُصولكم وتأزّرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة، شجى للناظر وأكلة للغاصب! ألا وإنّ الدّعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتَين؛ بين السّلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة. يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام من مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد وخذلان النّاصر. انتهى.
وهذا، بعد أن لم يعودوا يكتفون منه بأن يرجع حيث أتى، ولا حتى مجرد أن يبايع كما يصنع سائر الناس، وإنما أن ينزل على حكم ابن زياد، والذي تدل كل القرائن والشواهد على خبث قصده وسوء نيته.
والخلاصة، هي إن حركة الامام الخارجية، بغض النظر عن علمه الواقعي، لا تخرج في ظاهرها عما عليه السيرة العقلائية والشرعية، من ضرورة ملاحظة موازين القوى في قصد التغيير خارجاً. والقصد من هذا المقال رفض الرأي الذي يجعل من نهضة كربلاء ذريعة للتحركات التي لا تدرس الواقع المحيط، ولا تجعل معطياته في الحُسبان.
ويجب أن أقول في الختام: إنه مع تغيّر موازين القوى، مما أدى إلى مقتل الحسين وأصحابه، لكن مما لا ريب فيه أن تلك النهضة ابتنت على التقوى الخالصة، وتقديم إرادة الله على إيثار العافية. ولذلك كان لها ما نشاهده من الأثر العظيم على النفوس والقلوب، ليس لدى المسلمين فقط، بل لكل من قرأ تلك السيرة وتأمل في رسائلها. وهذا نصر عظيم ومستدام يفوق النصر العسكري الذي قد تخبو آثاره بعد حين، ".. أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ..". (سورة المجادلة ٢٢).