بقلم :جعفر حسن
لعل مفهوم الشجرة الموجد لدينا في اللغة العربية ناتج عن مجموعة التجارب البشرية التي عاشها انسان هذه الثقافة فيما يخص النباتات، وبالتالي تكون الشجرة كمفهوم داخل الدهن قابلة لكل حالات الأشجار الموجودة في الطبيعة، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يتعداه إلى ما تحمله الشجرة عند تخصيصها من مرموزات ثقافية تطال العمق الانساني للكائن وتجاربه الوجودية وما يستجيب للخيال والحياة الفكرية، ولعل الشجرة في ذاتها كانت رديفة للحياة الإنسانية بل والحيوانية، فحيث توجد الأشجار يمكننا العثور على الكائنات الحية الأخرى، فهي بطبيعة إمكانياتها الوحيدة القادرة على انتاج الغذاء لنفسها ولبقية الكائنات الحية على اليابسة وفي اعماق المحيطات.
ويبدو للمتأمل في تصورات الحياة المختلفة التي قامت في ثقافتنا بتعدد القصص الأسطورية عن الحيوانات، بينما تقل تلك التي تتكلم عن النباتات باعتبارها معبودات طوطمية للناس في سابق الأزمان، ويبدو أن الاتجاه العام نحو تصور الحالة الانسانية لمجتمعاتنا العربية بكونها حياة بداوة بما تعنيه الكلمة، هو الذي اثر على تلك الحالة من تكاثر الحيوانات في المرموز الثقافي وقلته في الجانب النباتي، ولربما تساهم مع أمور اخرى لتعكس هذه الحالة العامة.
الشجرة افق العالم
تبدو الشجرة في المنطقة الممتدة من وادي الرافدين حتى مصر القديمة بما فيها جزيرة العرب على صور متعددة تقوم في الاساطير والحكايات الخرافية وغيرها من التعبير عن الديانات القديمة، فمن الفراعنة الذين تخيلوا شجرة الحياة كشجرة عظيمة كتبت على اوراقها اسماء البشر وكلما سقطت ورقة انتهت حياة ذلك الإنسان، ورأينا على جدران المعابد الفرعونية كيف ارسل رمسيس الثاني رسله إلى تلك الشجرة ليكتبوا اسمه على العديد من الأوراق كي يخدع الموت، وليظل يتمتع بالحياة والخلود، كما تصور الرسومات الهيروغليفية الشجرة وهي ترضع الفرعون باعتبارها مانحة للحياة الأبدية، تلك هي الشجرة التي تعبر عن التجدد والبعث كل عام.
وقد حفظت لنا الاساطير العربية اسطورة الققنس أو العنقاء باعتبارها ظاهرة للخلود، والعنقاء كطائر له علاقة مباشرة بالنخلة، فتصور الأساطير العربية هذا الطائر بعد ان يعيش الف سنة فإنه يطير إلى طرابلس حيث يجمع له عشا عظيما على ثلاث نخلات وعلى العش يبدأ في الغناء من منقاره الذي به الف ثقب كل ثقب يعطي نغمة كما يصفه فريد الدين العطار، وبتصاعد عزفه حتى يصل الذروة تنطلق منه شرارة تحرق العش فيتحول إلى رماد يعاود منه الققنس القيامة من جديد، وبذلك ارتبطت قيامته بالنخلة.
وقد قدس العرب القدماء قبل الاسلام شجرة عظيمة كانت تسمى ذات أنواط، تلك الشجرة التي تمثل الآلهة الانثى والتي تزين بالأقمشة التي تنيط بها والقلائد فتعامل معاملة الانثى التي تمارس تحتها طقوس الخصب من تعلق الثياب والنحر عندها تعظيما، ويبدو أنها تعبر عن كونها مثوى العزى، كما عبد أهل نجران نخلة طويلة جعلوا لها عيدا في كل سنة يعلقون عليها كل ثوب حسن وحلي النساء ويعكفون عليها يومهم وهي مشهورة بنخلة نجران، كما أن الشجرة المشهورة بالعبلاء وهي عبارة عن شجرة (أرطى) كانت مثوى ذي الخلصة، كما تظهر لنا تلك العلاقة بين الصخرة والشجرة، ولكننا نظل نتساءل عن علاقتها بالينابيع او آبار المياه التي لم تنقلها لنا كتب التدوين، لذلك صنع بعض العباد من العصر ما قبل اسلامي تمثيل الالهة من التمر.
ويبدو أن العرب لا تطلق على النخلة اسم الشجرة مع أنها من الأشجار، ويمكننا النظر إلى البوذية التي تقوم حتى الوقت الراهن بتغطية الاشجار وتزينها باعتبارها مسكنا للآلهة، ولعلنا لا نقفل على دلائل تشير إلى عبادة الشجرة في ذاتها، ولكننا يمكن أن نلمس في العالم الاسلامي اليوم من يزين الاشجار معتقدا بتفاعلها مع المقدس بطريقة ما، ولعلها تعبير عن هجرة الاساطير عبر التاريخ وتلبسها بالمعتقدات المختلفة.
الشجرة بين المقدس والمدنس
كما وردت الشجرة في العهد القديم ضمن قصة خلق آدم وحواء ونزولهما من الجنية بسبب تلك الشجرة التي يشير اليها البعض على انها شجرة المعرفة التي بدون اكل ثمرها الذي اختلف فيه هل هو التفاح أو الأجاص، لن يتمكنان من معرفة مكان شجرة الحياة التي تتيح لهما الخلود، بينما ترد شجرة التين باعتبارها تعبيرا عن ستر الاعضاء التناسلية والبعض يشير إلى ورقة التوت في الثقافة المعاصرة، بينما لم يرد في القرآن تفصيل على نوع تلك الاوراق التي راح يخصفانها عليهما من ورق الجنة بعد أن بانت لهما سوآتهما، وهناك إشارات على أن النخلة هي اخت آدم وبالتالي هي عمة كل البشر، يظل ذلك التقديس ممتدا لثمار الاشجار المعروفة والتي تشير بعض الروايات إلى ان بعضها نزل مع آدم من الجنة .
كما ظلت الشجرة مرتبطة بالحياة كانت أيضا مرتبطة بما بعدها، فمن التقاليد المعروفة عند بعض طوائف المسلمين عند التغسيل وضع قطعتين من سعف النخل بعد تجريدهما من الخوص مع الجثة في القبر، تعبيرا عن توحد الإنسان مع النخلة في المنطقة. وكما يبدو ان الشجرة تلعب دورا هاما في تصور الثواب والعقاب فيما بعد الحياة، فهناك شجرة طوبي أو شجرة الطوباد كما تسمى في بعض الأحيان، وتلك الشجرة من شجر الجنة ثمرها ثياب اهل الجنة من السندس والحرير، كما انها مصدر اللهو في الجنة حسب بعض المصادر، وقد صور لنا كتاب التوابع والزوابع شجرة في الجنة ثمرها يخرج الحور العين، وهناك شجرة في اصل الجحيم كأن طلعها رؤوس الشياطين، وهي شجرة الزقوم التي هي جزء من العقاب الابدي باعتبارها طعام اهل النار.
شجرة الشرق الادنى
ويبدو أن صورة الشجرة في تراث المنطقة كان يصور ضمن ثالوث يكاد يكون متكررا عبر حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو ذلك التصوير الذي يعبر عن الشجرة والنبع والصخرة، ذلك أن شجرة الحياة تصور على انها تمتد إلى باطن الارض حيث الماء وترتفع إلى أفق السماء، كذلك صورت سدرة المنتهى التي ينتهي عندها كل علم وعمل صاعد من الراضين السبع إلى السماوات، وهي تمتد من السماء الاولى إلى السماء السابعة وإلى ما شاء لها الخالق، كما وردت شجرة الأرز على انها كانت المصدر لبناء سفينة جلجامش الذي قام برحلتها إلى دلمون القديمة ليبحث عن عشبة الخلود، تلك الشجرة التي كانت منبعا لمعظم الانتاج المادي الذي يستخدمه انسان المنطقة القديم في حياته اليومية، تلك الشجرة التي اكتسبت طاقة جعلتها ترمز إلى لبنان، بينما تعاني تلك الأشجار اليوم من خطر الاندثار، كما شكلت ورقة القيقب شعارا لكندا.
لقد شكلت شجرة الزيتون مرموزا كبيرا في المثيولوجيا، حيث أن الحمامة التي اطلقها نوح عادت بغصن الزيتون، وباتت شجرة الزيتون رمزا للسلام وكانت تيجان الفوز للاعبين بالاولمبياد في اليونان القديمة تصنع من أغصانها، ولعل شجرة الزيتون اليوم تشكل حجر زاوية لحياة الفلسطينيين اينما كانوا من خلال ارتباط زيتها بالخبز والزعتر، ولم يكن نداء ياسر عرفات غريبا حين صاح في الامم المتحدة لا تسقطوا الغصن الاخضر من يدي في اشارة إلى رمزية غصن الزيتون، ولازالت سلطات الكيان الصهيوني تقطع اشجارها وتمنع الفلاحين من الفلسطينيين من جني ثمارها، أنها المرموز العميق لهوية الانسان كما يقف البرتقال إلى جانبها.
يصور القرآن الشجرة على انها سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ويعاود ذكر الشجرة باعتبارها الشجرة المحرمة التي آكل منها آدم وحواء في الجنة، كما وردت في إشارة لبيعة الرضوان إذ يشير إلى ان تلك البيعة قامت تحت الشجرة، ومرة آخري تشير السيرة إلى طلب بعض المسلمين من الرسول بتعيين شجرة لهم كما كان لوثنيي العرب شجرة كانت تسمى ذات أنواط، ولعل النخلة لا زالت منذ العصور القديمة تعبر عن الفرح كما حدث عند استقبال الرسول في يثرب بأغصان النخلة، وهو ذات الأمر الذي يحترفه العرب بتزيين البيوت بسعف النخيل في الاعراس حتى اليوم.
وليس غريبا أن نجد تقليد تزيين شجرة عيد الميلاد عند المسيحيين احتفاء بأعياد الميلاد، بينما تشير كثير من الدراسات بأنها عادة فرعونية تتعلق بعبادة الشمس التي يصل فيها النهار إلى اقصر ساعاته، ويبدأ في الطول فاعتبر ذلك اليوم هو يوم ميلاد الشمس الذي استعاره الرومان فيما بعد وترسخ في أعياد الميلاد، وكانت تلك العادة منتشرة تقريبا عند كل الاقوام التي سكنت الشرق الادنى القديم بما فيهم العرب، وليس غريبا أن تظهر لنا في مقابل شجرة الحياة شجرة العائلة التي تؤرخ للعلاقات الانسانية في النسب لتشمل اسماء الاحياء والأموات دلالة على الارتباط بالأرض والمكان.
لم تكن الطقوس الدينية لتقام بدون البخور، وشجرة اللبان العربية معروفة عبر التاريخ القديم كمصدر من مصادر البخور منذ المعابد الفرعونية القديمة التي كانت تستورد البخور من اليمن، وحتى اليوم تشتبك أخشاب الاشجار العطرية من العود واللبان والمر وغيرها مع كل الطقوس التي تقام في المنطقة من طرد الأرواح الشريرة، والحماية من العين المحدقة، والاحتفاء بالفرح، إلى تغيير رائحة الجسم والشعر كطقوس الزينة والخصب.
