المنامة على بوابة الذاكرة 2 .. أشواق حماد المؤجلة*
بقلم: جعفر حسن
يتنفس صبح المنامة، بينما تصاب سدرة بعيدة بزقزقة العصافير، ينطلق من بعيد صوت المؤذن، وبلا استئذان تنطلق الأصوات الأخرى لتلحق به، كأن المآذن أشجار أخرى رمت أغصانها، لتخرج من الأرض على مسافات بعيدة، أو كأنها أصابع رجل عجوز حاول اغتراف حبها فاختفت كفه عميقا في المنامة، ولم تبدو منها إلا أصابعه على شكل منائر. أشباح قليلة تتحرك في الشارع، قليلا... قليلا تنهض الشمس من نومها، وينبلج الضوء فجأة، تتسارع نبضات الشارع، صراخ قريب، أصوات صبية يستعجلون الخباز للحصول على الخبز الساخن، وهو ينضج في الفرن، ينفث فيهم رائحته التي تحرض الذاكرة على استرجاع كوب الشاي، الذي نام فيه بياض الحليب، وهو يجاذبه النكهة، التي تتمرس في عجين الخبز، قبل أن تصب قطراتها في أفواههم، كعصفورة حنونة عادت بعد الغياب.
ينطلق من بيته حاملا حقيبته التي انتفخت كبطن أمرة أنجبت مرات متعددة، إسفلت الشارع يسير به إلى المدرسة، بعدها يعاود الركون إلى المنزل، هناك عين تترصد عودته دائما، تقلب دفاتره، وتحضه على الكتابة التي تنهك أصابعه فيلجأ إلى نهر البكاء. في زاوية المنزل تسقط الشمس أشعتها على غبار تعلق في الهواء، كأنه يرسم هالة نورانية على تلك الدراجة الهوائية المستندة على كتف الحائط، كعجوز يحاول أن يرتاح بلا طائل، يترك الدفاتر والكتب، تصرخ: عد هنا وأكمل فروضك. يترك الأمر ليطير في الهواء ثم يسقط على رمل الطريق. يعاني الأمرين من هذه الدراجة التي تتنفس فتهبط عجلاتها، لكنها لا تعاود الشهيق. يلقاه احدهم ويشير عليه بالذهاب عند دكان حماد ليصلحها له.
عند ما أثمرت يد الهاون
الظهيرة فركت بقايا الشارع، وانزوت الشمس قليلا نحو الغرب، فتمطى الظل ليمد لسانه يلحس ما تبقى من جمر الظهيرة، كقط يحاول تبريد جرح متقد، يسارع نحو الدكان، الصبية متحلقين حول حماد، وهو يوزع الحديث على مهل، بين عدد من الكلمات يأخذ نفسا من نارجيلته، كأنه يمتحن صبر الصبية، أو يتلصص على متابعتهم، أو ينتظر تعليقا ساخرا من أحدهم، بينما تظل نظراتهم معلقة في الهواء، كأنها شبكة مغزولة بالأحلام، تحيط بحماد هالة في نقاء ثوبه الأبيض الذي يظل ناصعا رغم الشحم والغبار المكدس على الدراجات وفي سلاسلها، هناك زجاجات المرطبات مكدسة تحت الثلج الذي يصب على ظهورها برودته في صندوق معدني مصنوع في سوق (التناكة)، وإبريق شاي على ظهره نام السخام، وهو يفور فوق موقد (الكاز) المصنع في الهند البعيدة، والباب الذي يطوى كأنه مروحة يتكوم في طرفي مقدمة الدكان، بينما يركن في جهة سيخ حديدي كان يحتضن الباب ليحكم الرتاج، ومصباح (كاز) يلتمع بلون الفضة، بينما تقف فتيلته متيبسة من التهاب البارحة.
نظر حماد إلى الصبي، أشار له أن يجلس مع رفاقه ففعل، واصل حماد سرد الحكاية التي يستل بداياتها :في ليلة من ليالي الشتاء ونحن نيام في الدار، وإذا بصوت سنور يعوي في هذا لليل البهيم، حاولت النوم، لكني لم استطع، كان يعوي من جوعه وعطشه، وانتم تعرفون أنه وقت النداء للتلاقي بين السنانير، ظل هذا السنور يعوي ويعوي ويعوي، فقلت في نفسي يا حماد حتى متى وأنت تصبر على هذه البلوى، فمددت يدي وأنا على الفراش، أتحسس الأشياء من حولي يمنة ويسرة، وإذ بي في تلك الظلمة امسك شيئا ما، وحين نظرت إليه، عرفت أنها يد الهاون فطوحت بها ورميتها على ذلك السنور المزعج، فلما أحس بالحركة ظفر من مكانه، فهدأ المكان، ورحت في نوم عميق.
سكت حماد، فصاح احد الصبية: وبعدين! قال حماد: مرت الأيام تلو الأيام، ومرت السنوات تلو السنوات، وفي تلك السنة على ما اذكر، كان الوقت شتاء، والريح تعصف، ونحن نيام في الدار، وإذا بأصوات عالية تصدر من طرف المنزل حيث عوى السنور، وأم أحمد تقول لي يا حماد: إنه لص في الدار، قم وانظر، وأنا أحاول النوم، قائلا في نفسي، لو كان لصا لما أصدر كل هذه الأصوات فهل هو مثل الدجاجة تأكل وتمرغ نفسها في التراب، لكن المرأة لم تهدأ، فقمت ونظرت وإذا بيد الهاون قد نمت وكبرت حتى صارت شجرة كبيرة من النحاس، طرحت أيد من مناحيز (هاونات) كانت الريح تحركها وتصطدم ببعضها فتصدر كل تلك الجلبة.
صدرت بعض ضحكات مكتومة من بين الصبية، فحدق فيهم حماد، وبدى كأنه مشغول بإصلاح أمر دراجتي الهوائية، مالت الشمس، وهي تسرب تعب النهار إلى غيمات شفيفة، تلفع بها الأفق الغربي، كامرأة من حينا فاجأها رجل غريب فتوارت خلف ردائها، بينما أبقت الجهة البعيدة مفتوحة على الضوء، بعد أن تسربلت باللون الأحمر، صار اللون الرصاصي يتسرب إلى اقلها ارتفاعا، بينما تسلل الصبية في دكانة المساء، وتفرقوا في الشوارع كل يطلب بيته.
في ستينات القرن الماضي من العمر أصبحت المنامة امرأة عجوزا، أتعجب كيف يحيلها الوقت صبية تتبختر متحدية الوقت وعنفوان الذاكرة، البيوت المبنية من الطين تسيطر على معظم أحيائها، تتكاتف وبيوت السعف المتراصة إلى جانبها، وهي تحاول تمرير ضوء قليل كانت تنشره بعض المصابيح التي علقت على جدران الطين، أو مالت من فوق عمود خشبي، كجذع شجرة غادرت الغابة احتجاجا على حجبها للضوء، يطلق ذلك المصباح رأفته على ناصية الشارع، بينما اختفت وسائل الترفيه التي لم يسمع بها احد، قليل من التلفزة، قليل من المذياع، في اقل البيوت، ملأت الجدات فراغ الوقت وهن يروين حكايات عن الجن والعفاريت، عن عوالم لم يختبرها طائر العنقاء على الرغم من هجراته وعمره المديد، الحكاية والحكواتي رفقتان راو لمروي يردد السير الشعبية وألف ليلة وليلة وغيرها من الحكايات الموروثة يملأن فراغ الوقت بين مقاهي المنامة ودكاكينها التي تحمل ملمح الفقر.
منذ ذلك الوقت الذي مشيت فيه صبيا بين دروبها، تناهى إلى بصري، تلك الحوانيت الصغيرة، التي توزعت على الدروب بعدالة تحسدها عليها المدن المكدسة، الشوارع غير مبلطة، والانجليز حسب ما كنت أتخيل يبحثون عن الطرق التي ترصها الحمير في مشيها، وهي طرق تتلوى كحية طاردها نمس انقض عليها من بين البساتين التي تحتضن تلك الدروب، فيبلطون شارعا على أثر مشي الحمير، لم اعرف تقديسا للحمار أكثر من تخليد مشيته على شكل شوارع لا زال بعضها موجودا على حاله حتى اليوم، لم يكن في المنامة شارع واحد يستقيم لمسافة أكثر من بضع مئات من الأمتار، تلك الشوارع بلا أرصفة، وكنت كل يوم اقرأ أمام معلم اللغة العربية، للشارع طواران طوار عن اليمن وطوار عن الشمال، وكانت الصورة تجسد الجنة بالنسبة لطفل يمكن أن يقيم عالما من الأحلام إن شاء، ويتساءل لماذا لا يوجد لشارعنا طوار.