بقلم : جعفر حسن
أعاد اليوم كرته بعصر جديد، والطفل لازال مشغولا بتلك الخيالات التي يثيرها حماد، بصوره التي يخلب بها ألباب مستمعيه الصغار، قاد دراجته متجها إلى الشرق، هناك يقبع مسجد عتيق وإلى جانبه تقف دار مصممة على شكل حمام عمومي، كان المبنى عبارة عن غرفة متسعة له فتحة في طرفه مواربة على شكل باب، بينما عدة فتحات كانت مستطيلة الشكل في الجدار، ربما تهرب منها رطوبة المكان، أو يتسرب إليها الضوء الخافت في ختل الاختفاء، لازالت تلك الفتحة تفتقد وجود الباب، كأنها تبتلع الداخلين إليها، فمهما حدق لا يمكنه أن يرى من في الداخل، تكاثف الضوء في الخارج والظلمة فاغمة في الداخل.
هناك تعلقت صنابير المياه كوطاويط نائمة، يتفلت الماء من أعينها المفتوحة على رؤوس القادمين، وبعضها لا يكاد يرتفع إلا بقدر الركبة عن مجرى يخرج الماء إلى المجهول، كانت الجهة الجنوبية مخصصة للرجال بينما الجهة الشمالية مخصصة للنساء، دخل وخلع ملابسه، أدار الصنبور وتدفق الماء منهمرا، بينما وقف آخرون يستحمون في ذات المكان عراة كما خلقوا، عين الخواجة بالقرب من مسجدها في نهايات فريق المخارقة، والنسوة يحملن الثياب ليغسلنها، بينما يتدلى من إطرافهن أطفال يحلمون ببرودة الماء وطراوة الحليب، بينما ظهرت لهم أزواج أسنان كانوا يبسمون لتظهر، كأنهم أطفال أفلام الكرتون.
بعد حين انطلق نحو الحكاية المدفونة في رأس حماد، بينما مر البقال على حماره وهو يصيح كأنه فقد طفلا ظل يناديه في اشتياق بيمط الكلام (بقل، رويد، بربيييير)، كانت النسوة يخرجن ملتفعات (بالمشامر) بالأردية الملونة كأنها الحقول وهي تغني للربيع، بينما تدلت ثيابهن الواسعة الأكمام كأنها تهتف للناظرين، وصل حيث كان الصحب يؤججون حماد بخبث الأطفال الذين لا يرد لهم شوق، تدفق حماد كأنه رأس مرش يوزع رائحة الورد على محمومين ليرقيهم بتعاويذه المسكونة بسحر الآفاق، قال حماد: في سنة من السنوات عزمت على السفر إلى الهند من اجل التجارة والسياحة كما تعرفون. ونظر إلى الصبية المتحلقين حوله، وهو يعيد ترتيب (شماغه)، بحيث يكوره على شكل عمامة لتوحي بالجدية، ثم واصل حديثه: ولملمت حاجياتي وشددت الهمة، وأخذت من البحرين ما اعتقدت أنه مطلوب في الهند، لأبيعه هناك وأغطي تكاليف السفر، وأنتم تعرفون أن أغلى الأشياء في الهند هو اللؤلؤ البحريني، تنهد مواصلا: المهم على طريقة ما يقال، أخذت أغراضي وذهبت إلى (الفرضة)، وهناك ركبنا محملا ضخما سيأخذنا إلى الهند، قال: سارت بنا السفينة الخشبية مع ريح طيبة وجو جميل، لازمنا من الصباح حتى المساء، والناس على سطحها بين الحديث وإعداد الطعام وإشعال النار (للغليون)، فالرحلة طويلة تأخذ أسابيع.
وفي المساء فجأة وعلى حين غفلة، شاهدت الدنيا تزبد وترعد وتبرق وتمطر، وإذا أمواج البحر الناعمة بدت تكبر وتكبر حتى صارت كالجبال، موجة ترفع المحمل، وموجة تحط به، فقرأت الفاتحة على روحي وأيقنت بالهلاك، وقلت في نفسي لا بد وأن ينفلق صدر السفينة من شدة الارتطام بالأمواج، فرحت ابحث عن ما يمكن أن يسعفني للنجاة لو سقط في البحر، ولكني لم أجد شيئا، ولم تكن إلا لحظة كلمح البصر، شاهدت فيها موجة هائلة ترفع المحمل من مكانه إلى عنان السماء وترميه، فتمايل ساقطا وكأنه ريشة في مهب الريح، سقطت السفينة على صدرها، كأنها رجل رمى بنفسه من مسجد عذاري ولكنه سقط على بطنه، فأنفلق صدر المحمل، ودخله الماء، فبدأ بالغرق، تمايل مع الموج والموج يعلو، والناس تحاول النجاة، وترفع أيديها بالدعاء، فمنهم من تسلق القسم الذي بقى طافيا، ومنهم من رمي بنفسه في لجة البحر، لم انتبه إلا وأنا في وسط البحر تتقاذفني الأمواج.
في تلك الليلة كانت الظلمة حالكة، والسماء ملبدة لا يستبان إلا برقها، ولا يري الواحد منا كف يده لو وضعها أمام وجهه، كلما لمع البرق شاهت المصائب، وهممت أن أسبح، ولكن بمجرد أن مددت يدي لأفعل، فإذا بلوح خشبي كبير يلامس يدي فأمسكته وتعلقت به كما يتعلق الغريق بحبال الهواء، لا اعرف إلى أين اتجه، أو ماذا افعل، فقلت في نفسي: اصبر فبين الساعتين فرج، وظللت طوال الليل أصارع الأمواج، موجة ترفعني وموجه تحطني، وظللت على تلك الحال حتى غلبني النوم، وأنا متمسك بتلك الخشبة حضنتها كأن بيننا عشق قديم. عندما أفقت في الصباح وجدتني متعلقا بصارية المحمل، ووجدت نفسي مرميا على الساحل، ولمحت الناس يتحلقون حولي، وبين ما يشبه النوم والصحو سمعتهم يقولون: ما الذي رمي بحماد على شاطئنا؟
أخذني الناس إلى مكان حيث استحممت وبدلت ثيابي، تعطرت ومشطت شعري، وتأكدت من ترتيب ملابسي، فما هي إلا لحظة وإذا أنا في حضرة الطعام والشراب، فأكلت ما شاء الله لي أن آكل وشربت حتى سكن روعي وهدأت نفسي، فسألتهم في أي البلاد أنا؟ فقالوا: أنت في إيران، فسألتهم ماذا فعل الشاهنشاه، فقالوا لي يا حماد: أن شاهنشاه يطلبك، فقلت لهم: وكيف عرف إني موجود في بلادكم؟ فقالوا أن الشاهنشاه يعرف كل شيء، وفجأة إذ بموكب رسمي كبير من السيارات الفارهة المكشوفة يمر أمامي، وإذا به موكب شاه إيران نفسه، وفي سيارته يركب موشي ديان، فقمت وسلمت على الشاة، فعرفني بضيفه، ولكني رفضت أن اسلم عليه لأنه شن حربا على جمال عبد الناصر، وقلت له يا شاه، يجب أن لا تركب أمثاله معك في السيارة، فأمر به فنقل في سيارة أخرى، وركبت معه في السيارة التي سارت بنا وسط الناس، وقد اصطفوا لتحيتنا على جانبي الشارع وهم يلوحون، وأنا والشاه نلوح لهم بالمقابل، وسمعت الناس تتساءل فيما بينها: ترى من الذي يركب السيارة مع حماد؟
انفجرت الحلقة بالقهقهة، وقد بدأ المساء يسرب ظلمته فتجوس في الطرقات، كأنها تنسرب مع ضحكاتهم المسكوبة على أردية معلقة على حبل الغسيل، يلعب بها الهواء، فانسلوا كيمامات حلقت في سماء المنامة، خفافا واحدا بعد الأخر، أخذتهم الطرق الطرية إلى حيث عبق الأحلام.