في سحرية الأشياء
بقلم : جعفر حسن
يقوم المخيال الجمعي لدينا بالتفاعل مع أسطرة الحياة التي نعيش، والتي لا تقف عند حد التقديس، وإنما تقلب الأشياء العادية واليومية لتحمل مرموزات ابعد في الثقافة الفاعلة للحياة الاجتماعية عند العرب بكافة طوائفهم ودياناتهم ومن يعيش بين ظهرانيهم من اقليات عرقية وغيرها من التصنيفات التي باتت تقف حاملة لواء التفتيت في داخل مجتمعاتنا، وصولا إلى الفوضى الخلاقة التي لم نرى منها ما هو خلاق أبدا. ويظل السؤال حول تلك الأشياء التي يدخلها العقل الجمعي في السحري الفائق الذي يقوم داخل فضاء المتخيل عبر إلباسها لما هو عجائبي وغرائبي، مما يجعلها خارجة عن التجربة المنطقية والعقلانية، ولعل ذلك نابع من الحاجة إلى تلبية متطلبات التجربة الجمالية التي تعتبر خارج قيم المدينة رغم وجود حراسها الأكثر ضراوة، والذين يقفون ضد الجمالي على اعتبار كونه فتنة يمكن أن تشعل رغائب الإنسان من أجل كسر المحظور والممنوع والمحرم، وبالتالي خلق التباس بين المقدس والمدنس بالسحرية المحرمة التي يقتنيها البطل في الحكايات، والسؤال المعلق الذي يمكن أن يتبادر إلى الذهن هو: ما الذي يجعل بعض الاشياء تدخل في كونها أشياء سحرية بينما تبقى أشياء أخرى غير قابلة لذلك؟
فتنة الخاتم
تلك المخيلة الجمعية التي تقوم في القصص الشعبي الذي يظهر باعتباره تحقيقا للأمنيات، التي تقوم بشكل تعويضي عند الفئات المسحوقة من الشعب، وتفتح المخيلة على تحقيق الرغائب العديدة المقموعة، والبحث الدائب عن الخلاص المادي في الحياة من خلال امتلاك خاتم سليمان، هذا الخاتم الأسطورة، وإن كان الكلام في دعاء سليمان عن أنه يبتغي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، ولكن البحث عن ذلك الخاتم لازال يراود الجميع في مخيالهم، ويبدو من خلال تفسير المفسرين لقصص القرآن أن ذلك الخاتم هو سبب سيطرة سليمان على الإنس والجن والريح، وهو ما أعطاه القدرة على التخاطب مع الحيوان، ولكن هذا ما يقوله التفسير بينما القص القرآني يقف عند العموم والتفسير يذهب للتفصيل، وبالرغم من هيمنة التفصيل والتأويل على الحد من انتهاك الحدود العقلانية المفترض، لكنه لم يجعل المخيال الشعبي يتوقف عند ذلك الحد، ذلك الخاتم الذي يسكنه الجني الذي يحقق أقصى الأمنيات التي يتمناها الفرد بلا حدود، والبحث عن ذلك الخاتم في ثقافتنا العربية يشبه إلى حد بعيد البحث عن الكأس المقدسة التي شرب منها عيسى بن مريم في العشاء الأخير.
لم يتوقف المخيال الشعبي عن إضفاء القيمة الهائلة على خاتم سليمان، وإنما أضفى على كثير من الأحجار والفصوص التي تستخدم في الخواتم صفاتا سحرية تنتقل منها باللبس إلى اللابس، وقد بات الأمر متسعا إلى درجة أننا سنغرق في التفاصيل بالنسبة للأحجار كفصوص، ولكن الأهم هو أن كل خاتم وكل فص فيه إنما هو صورة ما لخاتم سليمان بشكل أو بآخر، ولكنها صورة بعيدة منسوخة من المخيال الجمعي الذي يذهب نحو التفكير الاسطوري.
ضوء المصباح
ولم تفلت الأشياء الحميمة من تلك الطاقة السحرية التي تعطي الفرد قدرة على تحقيق الأمنيات، فنجد مثلا مصباح علاء الدين، ونحن نعرف المصباح الزيتي الذي ورثناه عن الأجداد، ذلك المصباح الذي كان يطيل أمد النهار في رابعة الليل، وتشير الأساطير إلى أن جنيا حبس منذ عصر سليمان عليه السلام في ذلك المصباح حتى وقع في يد علاء الدين، وما حدث لخاتم سليمان من خلال السرقة عبر تلبس الشيطان بصورة سليمان ذاته، هو ذاته الذي حدث لمصباح علاء الدين حين تخفى الساحر في صورة بياع للمصابيح، وضحك على جارية علاء الدين واخذ منها المصباح السحري، وبه ملك كل شيء، ولازالت النكت الشعبية مشغولة بسوء استخدام المصباح الذي يجده من لا يحسن استخدامه.
يظل القص من العصر الوسيط يغذي الحاجة الجمالية للمجتمع ليضفي الفاتن والغرائبي على ما هو مألوف، ولم يكن ذلك المألوف ببعيد عن تصور المصباح والزجاجة، عن الضوء والزجاج الشفاف الذي يسمح لذلك الضوء بالعبور، ولذا ظلت الزجاجة في المخيال الجمعي مربوطة بالعفاريت والمردة المسجونين فيها ضمن رقم ما هو في نهاية المطاف باب آخر للخروج، تلك الزجاجة التي تتيح لمن يلتقطها أن يخرج المارد الذي يتوجب عليه أن يحقق له ثلاث أمنيات، ولسنا نعرف لماذا ثلاث بالضبط أو ما الذي يجبر الجني على تحقيق تلك الأمنيات، وهو ما يجعل التصور الفني يهرب من التبرير العقلي إلى الاحتماء بالجمالي المغاير.
باب على المجهول
لعل قصص ألف ليلة وليلة تضفي على باب الغرف أيضا قوة سحرية، فالأبواب ليست هي الأبواب المعتادة التي نراها في معظم الأبنية الإنسانية، ذلك الباب الذي نستخدمه يوميا للدخول والخروج، وربما نستعمله لصد المعتدين في القلاع، وشتى الاستخدامات التي يمكن للعقل تصورها، ولكن أن يفتح باب لحجرة في قصر به الكثير من الحجر، لتظهر خلف الباب حديقة تستحم فيها شلة من الصبايا الفاتنات، فيجب أن يكون ذلك الباب سحريا ليطل على مكان جديد يدخله الإنسان لا علاقة له بالمتوقع المعتاد في التجربة الإنسانية، ولعلنا ندرك ذلك الاستخدام المستفيض في السينما والإعلان لذلك الباب السحري.
لم يقف الباب فقط باعتباره منتصبا يسمح لمساحة الدخول أو الخروج، ولكنه أيضا كان بابا موجودا على الصندوق، هذا هو الباب الذي يفتح على الحلل السحرية التي كانت للصبايا يلبسنها ليتحولن إلى طيور ويطرن، وبذلك دخل نوع متخيل من اللباس في السحري، ولكن ذلك الباب لا يقف هنا في القص بل أن رجلا يأتي بصندوق فيفتحه لتخرج منه جارية كأجمل النساء، كما في قصص ألف ليلة وليلة، وعادة ما يقف المخيال الجمعي أمام الأبواب الشاهقة والمنيعة باعتبارها عقبة يصادفها البطل أو البطلة في طريقه لتحقيق ما يصبو إليه، ونعرف أنه لم توجد في الطبيعة مغارات لها أبواب فالأبواب من صنع الإنسان، ولكن مغارة علي بابا لها باب سحري يستجيب فقط لنداء خاص مثل الطلسم أو التعازيم، والذي به يفتح باب المغارة لتشرق شمس الكنوز السحرية التي خزنها اللصوص، افتح يا سمسم، وينفتح باب المغارة على المغامرة.
استبرق الطيران
لم يمر الباب فقط في التجربة الإنسانية، وإنما كان للبساط باعتباره ما يقتنى كتحفة في القصور نتيجة للفقر السائد في تلك الأزمان، ولعلنا ندرك قيمة القماش بشكل عام عندما تعتبر الخلعة (الملابس بتعبيرنا المعاصر) أعطية سنية في تراثنا العربي ضمن الأموال المتداولة وعادة ما تعطى من الأعلى إلى الأدنى، وبذلك دخل البساط الأساطير باعتباره بساطا طائرا مصنوعا من شعر السحرة أو كان من غير ذلك، يمثل البساط الطائر تشكيلا رمزيا للرغبة في الطيران وما يمكن أن يحققه من مزايا للفرد تتغلب على وسائل النقل الأخرى، ولعل بساط الريح، أو البساط الطائر هو إجابة أسطورية لكل أحلام البشر المورثة عن أجداده القدماء، تلك اللحظة من الطيران التي كانت تحدث لأجداد الإنسان في غابر الزمان السحيق، عندما يقفز من شجرة إلى شجرة، وكانت هناك إجابات متعددة لسؤال الطيران هذا ومنها بساط الريح في التراث العربي، كما كان المخيال أيضا يذهب نحو المردة الذين يحملون البطل ليجتاز المسافات وتظل المسافة بين البساط والمارد مربوطة بخيط الملكية والسيطرة عليهما.
همس الاختفاء
إن تحقيق الرغبة لا يمكن أمام حضور المقدس وما يؤول إليه كسره من العقاب، ولكن الإفلات من العقاب سيطلق العنان للذهاب نحو تحقيق تلك الرغائب، حيث يتمكن من ذلك حين يكون البطل مختفيا عن العيون، ويبدو أن الطاقية ولبسها أمر عادي يحصل لآلاف مؤلفة من الناس في البلاد العربية والإسلامية، وذلك اليومي والمعتاد يذهب به الخيال الجمعي نحو إضفاء هالة سحرية على (القحفية) أو الكوفية لتصير طاقية للإخفاء والاختفاء، عندما يلبسها الشخص، كم من أمنية يمكن أن تمر على الفرد بإمكانه أن يقوم بها مادام لا يُرى، ولعل تلك الهالة السحرية والطاقة الكامنة فيها تجعلها تخفي ولكنها بمجرد نزعها تظهر هي ولابسها للعيان، إنها تلك الأمنية الدفينة التي لازالت تشتعل في الأرواح من اجل تحقيق ما تصبو إليه النفس من شتى الأشياء، ألا يعبر ذلك عن إعلاء لقدرة الإنسان على التخفي من اجل القيام بما يريد دون أن يلحظ ذلك في سلوكه أو يشك به أحد.
العصا بين المقدس والمدنس
تبدو لنا عصا موسى كمعجزة تتغلب على عصي السحرة وما ألقوا، فالعصا المقدسة غلبت عصى السحرة، وتبدوا المعجزة مرتبطة بشخص النبي وغير قابلة للتكرار، ولكننا نشهد اليوم تلك العصا السحرية بيد معظم سحرة الأرض، وعادة ما يتبع الساحر تلويحته بعصاه السحرية بكلام يحدد نوع الأداء المطلوب انجازه من العصا السحرية، فدخلت اللغة من هذا الجانب في سحرية الأشياء، وكذلك يشار إلى مقولة إن من البيان لسحرا، وبطبيعة الحال كانت عصا موسى كمعجزة تجمد البحر وتفرقه، وتتحول إلى ثعبان عظيم.
وقد كتب في منزلة العصا كلام كثير حسب الاستخدام فهي (عود، صولجان، القسقاسة، المقذعة، النفعة، المخبط، الموبل،المخرش أو المخراش، المتيخة، السلاح، الوقام، الهادية، العتلة، المعجفة أو المعجاف، المهمزة، النجا، المزام، المطرقة، المهزام، القرضوف، القشبار، هراوة، المزربة، العنزة، عكاز، النيزك، حربة، الرمح أو القناة، عامود، النبوت.. الخ) ويستوضح هنا لماذا دخلت العصا في السحري وهي التي لعبت أدوارا عديدة في حياة الإنسان العربي.