المنامة على بوابة الذاكرة
بقلم: جعفر حسن
المنامة كائن رهيف يمشي على حبل الشمس، كنت هناك مع بدايات زمني، افتح نافذة للوعي الذي انبثق فجأة بالوجود، أدركت ذات نهار جميل بأنها فاتنة، وهي تلف وجودي بالأحبة على القرب والبعد، قمر على خريطة البلاد هي المنامة، كانت أحياؤها تتنفس الصبح، حين كانت أمي ترمق بعيونها الجيران لعلها تجد هناك جارة منسية يمكنها أن تشاركها طقوس الإعارة، تلك المدينة التي تبتلع صخب الأسواق وتنشر سعرها ليبتل بعيون الماء العذبة وهي تراقص البحر والنخيل عبر التاريخ.
في الطفولة حتى المرحلة الأولى من الشباب كان لي ولع بالمشي خصوصا في ليل المنامة، كانت الليالي في المنامة تتنفس رئة الخضرة، كان الهواء منعشا، ولم تكن هنا حيوانات حديدية تنفث براكينها لتختصر الهواء في فساده، كنت امسح عيني بجدرانها مع الأصدقاء، أتذكر منهم الآن عباس خليفة، وهو يسكن (السقية)، كنت ادخل منزلهم وكأنني واحد منهم، كانت أمه تعد لنا الشاي المطرز بالحليب، كنا نشربه في كأس معدني يفاجئك حين يلمس شفتيك بحرارة محتواه، وإصراره الدائم على الالتصاق بهما، تعد لنا الطعام، ترمقنا بعينيها وتبتعد كلما أمكن، كانت أخوتها إخوة لي.
على أني كنت أعيش في عائلة كبيرة ممتدة، وكان بيت عمي ملاصقا لبيتنا مباشرة في ذات الحي، ولأمي ثمانية أولاد كنت ثانيهم، أفقت وولع بالعب يتشبث بثيابي، فتتمزق من فرط الحركة مع هذا الحشد من الأجساد، ونوم أبي لقيلولة النهار، يمنعنا من الحركة على سطح الدار، تلك السطح التي دعمتها من الداخل جذوع الأشجار المجلوبة من بلاد بعيدة تسمى (كندل)، بينما زخرفتها شرائح القصب المتقاطعة بألوانها الداكنة، ونام فوقه (المنقور)، فكانت تئن تحت وقع أرجلنا كلما أخذتنا صبابات العدو إلى تجاوز الحدود، فكان لنا أن نلجأ إلى رصيف الحلم، أو نعانق الساحات، بعد صيحات التهديد المفعمة بالحب المؤجل.
(السقية) حي مؤثث بجماليات الزرع والضرع، كنا نتشارك البحث عن عيون الماء التي تفيض ليلا وكأنها تبكي مع ارتفاع المد وإعلان القمر حكمته في السماء، كانت تلك العين تسمى (أم البقر) لازلت اسكن مكانا قريبا منها. كتبت ذات مرة عن تلك الروائح التي تنبعث من أزقتها وحاراتها حين يراها طفل جائع تستفزه حرارة الجسد، تلك الرائحة التي تتغلب على الجدران فتجعلها تشف حتى ثمالتها.
المنامة دمنا، دمعنا
في المنامة بيوت كثيرة كانت مشرعة الأبواب دائما، كنا ننتقل من دار إلى أخرى أثناء لعبنا ومرحنا بين مشاهدة التلفاز الذي كان موجودا في بيتين فقط أحدهما بيت عبد الكريم جاسم والآخر في بيت سند، فمشاهدة التلفاز كانت دلالا لا يتوفر دائما، على العكس من اللعب في الساحات التربة، كانت بيوتنا تتوسطها ساحة تكاد تكون معزولة لها ثلاثة منافذ لا تعبر اثنين منها السيارات، كرتنا كثيرا ما تطير إلى داخل البيوت المنخفضة، فكنا نسمع صراخ الكبار وتأففهم من اختراق خصوصياتهم، وكثيرا ما كانت تعود الكرة سليمة فكنا نبسم، أو نتضايق لكونها مشقوقة عقابا أحيانا.
كل امرأة من نسوة حينا أم لكل الأولاد بمعنى من المعاني، كانت رأفتهن تسبق شغبنا وتغفر أخطاءنا، وتمسح في ود بكاءنا، لكن دمعنا يشكل خارطة قديمة لم تتعب الرطوبة من تكرار رسمها على جدران البيوت العتيقة، حدثني ذات مرة عن جمالها الفنان عبد الكريم البوسطة في ذات شطح كان ينتابه وهو يتحدث عن الفن والحياة في اتقاد، كان هدوءه ورزانته يفتحان بابا لفتنة كلمات كان يتلقاها صبي في المدرسة لازال في الصف الخامس، أدركت حينها كم يحب هذا الفنان الحياة ويراها من خلال شغفه وولعه، تركت كلماته في نفسي أثرا لازالت رائحته تؤجج ذئاب الفكر وتجعلها تهرول في الغابة علها توغل هناك، كان يعلم الرسم في مدرسة النعيم، ذلك الحي الذي كانت مدرسته تعانق البحر، وكثيرا ما كان يمد لسانه ليعلن عن استرجاعه لبعض المساحة التي دفنت منه.
كانت المنامة من حين إلى حين تمتلئ بضجيج يأتي من كل الجهات، كنا في المدرسة نسمع الهتاف، فتتقافز أرواحنا رغبة في الخروج من القفص، كانت المنامة على موعد مع المظاهرات في فترات متقاربة حينا ومتباعدة أحيانا، كأنها على موعد مع القدر، فنتسقط الأخبار التي تنتشر بين الطلبة عنها، نتساءل ولم نعرف شيئا إلا أنها كانت ضد الاستعمار،(يسقط الاستعمار) كان شعارا، يكتب بكل الوسائل المتاحة على الجدران، وكأنها كانت الزينة الشعبية المنتقاة لكل بيوت المنامة، كان الصبية يقذفون المصابيح التي كان يشعلها الشغيلة العمانية كل غروب بالأحجار، التي تجيد تصويبها مقاليعهم المصنوعة من خشب الأشجار، فنعرف أن في ذلك المساء سيوزع منشور ويتداول في الخفاء حتى يدخل طقوسها عبر الحريق قبل اندلاع النهار.
ذات فوران للمنامة سقط طفل بالرصاص المروع، عرفنا على الفور اسمه (فيصل القصاب)، انتشرت الأخبار بسرعة رعدة في جسد واحد يتمدد بحجم المنامة، أقامت كل نسوة الحي عزاء في منازلهن، بكينه كأنه كان لهن، تجمعت بعض نسوة، وطفقت أعينهن تمسح أزقة الحي بحثا عن صبيتهن الذين لم يعودوا بعد في تلك الساعة المشؤومة من نهار الغضب، سمعت انه كان يحمل حصاد الروح لعمال يشتغلون في منزلهم، سمعت النسوة يتأوهن عليه، قلن: علق الدم بالباب وهوى إلى الأرض تلوى واستراح، قفزت الكلمات عن شهيد يغسله دمه، تكفنه ملابسه، في ذات اليوم وأنا راجع إلى منزلنا من المدرسة، داهمني حارس مسلح يقف على سدة الزقاق، تأملت عيناه الحجريتين، وجه بندقيته إلي، كأنها أصبع الموت حين تشير، تسمرت بي الأرض، استشعر خوفي فأومأ إلي: اذهب، فمضيت.
المنامة الوجه الثالث للطفولة
كانت لطفولتي وجهان، كنت اقلبهما كلما كبرت، اقبل ذلك الوجه الحالم لصبي يرقب نجوما بلا حدود، بينما كان يعمل قبل أن يستكمل بنيته، "العمل ملح الرجال" عبارة دائمة التكرار على لسان أبي، وأمي تحثنا على العمل أيام العطل، لذا عملت وأنا لم اصل الثانوية، عملت صباغا، عامل بناء، عاملا مساعدا لكهربائي، بياعا جوالا في الأسواق .. الخ، كان موعدنا الفجر، ومع الفجر كان صوت المؤذن الذي يسبقنا دوما إلى المسجد يرج الفضاء بعذوبة صوته، كان هناك مؤذنان في الحي مشهوران بجودة الترتيل وجمال الصوت وحسن رفع الأذان، احدهما كان في مسجد (الخواجة) والأخر في مسجد (مومن)، وكان كلاهما من أهل الحي المعروفين.
بعد أن تصعد صلاة الصبح من مسجد (مؤمن)، تتخاطف أرجلنا الطرقات التي تحيل إلى المطاعم الشعبية في سوق المنامة القديمة، وهي تهيئ فطورا دسما لتلك السواعد السمر، كانت أكلات (الهريس) و(الباكة) والكباب المتبل عند مطعم (مندلي) في السوق القديمة تستفز الجوع، وهو يتحدر من ليل طويل، بانتظار نهار أطول تحت الشمس، كانت المقاهي الشعبية تتفنن في تقديم أطباقها، وكان العمال فيها يتحركون بعشوائية حتى تظن انك في خلية نحل، تختلط فيه الصيحات بأصوات مذياع قديم تعب وهو يملأ الهواء بالأغنيات والأخبار، كان الكل يعاني من قسوة الحصير الموضوع على تلك الكراسي الشامخة في ارتفاعها والممتدة طولا، والمتنمرة في صلابتها، كأنها صنعت لتبقى ابد الدهر من ألواح وأخشاب سميكة، ترفض بعناد أن يتملكها شخص واحد بل تدعو للمشاركة.
توق غامر
في الطريق إلى وجبة الإفطار أمر أمام مكتبة (المهزع) ـ وربما كان اسمها (مكتبة البحرين) ـ بلا اكتراث فهي عادة ما تكون مغلقة في تلك الساعات الأولى من تثاؤب النهار، كم كنت أقف أمام الزجاج لأنظر إلى كتبها في شوق، حتى أني كنت اجمع ما بيدي لأشتري قصة ما (سوبر مان، الوطواط، ميكي، سمير)، مجلة مصورة، يتخاطفها إخوتي في البيت مهما حاولت إخفائها، كذلك كانت تغويني مكتبة (الماحوزي) في الطرف الأخر من السوق، لا زلت أتذكر كيف كانت أغلفة الكتب تتناهبني، وتظل تلح علي حتى أن غلاف كتاب (أيها العقل من رآك) للكاتب السعودي عبد الله القصيمي، ظل يداعب مخيلتي حتى حصلت عليه بعد عودتي من الجامعة.
لازلت اذكر شارع الشيخ عبد الله، ذلك الشارع الذي كان يضم قبل الفجر كل الشغيلة الأجراء، وهم يتجمعون قريبا من بعضهم كأعمدة تحاول أن تقيم الهواء بينما يجلسون القرفصاء، كان العمل باليومية هاجسا يترك بعضهم ساهما، خصوصا كلما تصعد النهار، ولم تمتد لهم يد ما ليعملوا، كانت وجوه الرجال متشابهة، تملكتها خطوط الجلد والمجايلة، يجلس البحريني إلى جانب العماني (محمد القطامي وصاحبه عنتر وعلي اليماني) ليشكلوا فسيفساء حاضرة مطرزة بالضحك والبكاء، ويظل الكد واحدا كأنه الخليج، أتذكر رحيلهم عائدين إلى أهلهم كأنه الأزيز إذ يطنب في (مرد الغريب لأهله).
انكشاف مؤقت
كان المنزل يعج بالحيوانات في زريبة خلف بيتنا، نشأنا ولنا علاقة حميمة مع الحيوانات، تجربتنا مع الحيوانات علمتنا، ونحن أطفالا أن نتأمل الموت، لأنه كان يزور الدجاج والبقر والغنم بين حين وآخر، مرة نفقت كل دجاجات أمي، كنت أرى حزنا غريبا في عينيها، ربما لأنها لن تكون قادرة على توفير البيض لنا، أو ربما لأشياء أخرى. لم تكن الأم مجرد أنثى حاضرة، بل كانت وهي تذرع بعينيها المكان تتأكد من وجود لمستها الخاصة على كل الأشياء، لم تكن تترك حتى حنيننا إلى اللعب يفلت خارج الفتها، تعيد ترتيب أوراق الوقت لنا.
اشترى أبى جديا فربيناه وتعلقنا به، فظل يتبعنا في كل مكان، وتنفجر ضحكاتنا حين يلحق بنا لينطحنا بقرونه التي كانت تنمو مثل نخلتين منحنيتين، وفي يوم عدنا من المدرسة ولم نجده، أعلمنا أبى انه باع التيس إلى قصاب واخذ من عنده أداما للبيت، عندما سألناه عن تيسنا (حنتوش)، في وقتها كان الطعام الذي أعدته أمي يطلق أريجا تتغذى الأرواح به، يكاد يلمسها لإفراطها في تدليله وتتبيله، لكن أرواحنا كانت غارقة في بحر البكاء، شعرت بأن أشدنا تأثرا أختي أنيسة، لربما جعلها ذلك تحيل حبها إلى القطط، ربما عرفت بحدس الطفلة إننا لا نأكل القطط بل نحبها فقط.
ظل الخيال
على الرغم من أن أمي تقرأ وتكتب إلى حدود الصف الرابع الابتدائي، إلا أنها تحثنا دائما على الدراسة، لما تعلمنا أخذنا نحثها على إكمال تعليمها، فأكملته بإصرار نادر رغم ثقل المسؤولية وتباعد الزمن، فقد كانت تقضي معظم وقتها تهتم بدروسنا وترتيب حقائبنا التي كانت تبدو كبيرة، ككل الأشياء في تلك الفترة، المعلم فاره الطول، السبورة كبيرة، مدرسة درويش على ضيق مساحتها كانت ملعبا للركض واللعب.
و في ليالي الصيف مع نداوة المساء وهي تساقط طلا على أسرتنا القطنية، التي نفرشها على سطح الدار لتبرد، تصب أمي في مسامعنا ألف ليلة وليلة، والسير الشعبية، ونحن متحلقين حولها في ذهول، أحرك كل الكائنات في مخيلتي، وأشاهد على شاشة السماء ما تصوره كلماتها، وهي تتمطى بالفصحى القريبة، لتسبر تلك الخرافات القديمة عن الجن والعفاريت والمردة والشياطين، السندباد وهو يجتاح المخاطر، يتعلق بالرخ حاملا المرجان واللؤلؤ، ولا يعود إلا مكتنزا، لكنه في كل مرة يعاود الرحيل إلى بلاد العجائب خاو الوفاض، كانت القصور مملوءة بالكلاب النائمة وهي مفتوحة العيون على كنوز الأرض، ومالا يكون.
منذ البدايات الأولى ظلت أمي حريصة على تعليمنا القرآن والصلاة، تتلوه فجرا وفي تهجدها تردد النسمات البادرة للشتاء أصداءه كل مساء، صوتها يختلج في أروقة منزلنا، تهدر بالشعر والأمثال، أو تنادي أسماءنا ببحث مستميت في الذاكرة عن اسم يتفلت ممتنعا، كانت مقرئة في مأتم النساء (الحسينية) كان اسمه (مأتم بيت طيبوه) على اللفظ الشعبي، وتحرص تمام الحرص على إعداد ما يلزم للمعزين، تتهيأ للموسم كأنها تقبل على الحصاد، وكنت اقضي الليل في نسخ (السفائن) الحسينية المجلوبة من ارض العراق مكتوبة بلهجة أهله.
مرايا الأحلام
في الجهة الأخرى من الحي وعلى مفترق من الطرق قبل السوق يقع مأتم (مدن)، ولا زال في مكانه، بين جدرانه ضم كثيرا من شغب وعنفوان طفولتنا، كنت في أيام القيظ الملتهبة اجلس في وسطه الذي يبدو كساحة هائلة، وانظر إلى قبته التي تتدلى منها ثريا بدت كبطن أمرة حامل تتدلى، وتلتمع حبات الكرستال، كلما داعبها الضوء المتسرب على حياء من نوافذ قبتها، أو من تألق المصابيح داخلها، فتستبد بالمكان، بينما كانت التشكيلات المنتشرة على باطن القبة تثير في شعورا بالجلال والسمو، وتأخذني مبهورا تلك النوافذ التي ُعشق زجاجها بألوان تتداخل مع طيف النور، كانت تلك القبة تمتص الهواء في صمت ليبرد المكان من الداخل بشكل لا يخطر على بال.
ظللت فترة من صغري أجول في المكان، أقدم الشاي حينا أو القهوة، أو حاملا الغليون (النارجيلة) للمدخنين، لفت انتباهي أن أول المدخنين لا يسعل، وكذلك الثاني، ولكن الثالث كان بالضرورة يسعل، فسألت مرة عن السبب، قيل لي: أن الأول يشعل التبغ، والثاني يحرقه، والثالث يدخن المحروق منه فيسعل بشدة. كانت عتبات هذا المأتم المرتفع عن الشارع مجلسا حقيقيا للبعض، كما كان يحضن بحنان بعض الشحاذين، وهم يفرغون عليه ألما يعتصر أرواحهم، لكنه كان يرأف بهم فلا يتركهم في البياض المستحيل.
على عادتهم المقرئون في تراث القراءة الحسينية يبدؤون بالافتتاحية التي لا تتغير تقريبا، ثم قراءة الشعر الفصيح، ثم السرد عن الموضوع المختار للمناسبة مع استشهادات بالقرآن الكريم، ثم الاختتام بـ (الردادية) وهي مقطوعة من الشعر العامي، تفجع في مصاب آل البيت، ضمن تقاليد القراءة الحسينية. المأتم هو المطبخ الأساسي الذي سمعت الكلام وهو يتحرك بإيقاعاته مع حركة الأجساد، لعل تلك التجربة تعززت في (المعلم) وهو مكان تحفيظ القرآن الشعبي، فيفيض بتلك الأنغام الموقعة في التلاوة التي تقاوم بلادة التكرار، وتحاول حث الأجساد على الصمود أمام هجمات النعاس، تلك الإيقاعات التي تحرك الأجساد، والتي ينهي عنها لشبهها بحركة اليهود كما قيل.
أينما يممت في المنامة لا بد أن تقع عيناك على المنائر التي تعلق فوقها الهلال، وسطعت أنوارها مجلجلة في ليل المنامة، والمنامة امرأة تلبس جلبابا طرزته المأتم التي تحتضن الأفراح والأتراح، الأسماء غامرة، حتى الأطفال كانوا ينشئون المأتم، ثم تنسل لتختفي بلا جلبة، كانوا يجربون فيها أدوارهم التي تملئ الحياة، فمن مأتم (العجم الكبير) إلى مأتم (سلوم) إلى مأتم (السماميك) أو (الجزازيف) إلى (الصفافير)، و(رأس الرمان)، (العريض)، (حجي عباس) (الجهرمية)..وغرها الكثير.
عيون ليست للبكاء
في الجنوب الشرقي من المنامة توجد عين (أم الشعوم)، استولت على المكان في استدارة غريبة، كنت أتساءل دائما عن علاقة عيون الماء بالاستدارة، ماؤها رائق، يفضح قاعا نام الطين مطمئنا عليه، بينما في الطرف الغربي شيد مسجد لم يكف الأولاد عن تسلق جدرانه، ليستمتعوا بالسقوط قرب النبع، هناك علاقة غريبة بين المسجد وعيون الماء في البحرين، ظل السؤال عن تلك العلاقة يلح عليا منذ انتمائي الأول للمكان. ونحن نتحرك في مياهها نحس بكائنات الماء وهي ترقبنا، ربما عرفت أننا في غفلة قد نسقط عليها، بعض السلاحف التي كانت تبدو مجعدة كجلد قديم ترك ليجف في الشمس، تركت الماء لتضفر بصخرة بعيدة عن أيدينا، بينما كانت الضفادع تخاتلنا بألوانها التي تتشبث بالطين وخضرة المكان، ما تلبث أن تعلن عن نفسها عندما تلج الشمس ليلها أو قبلها بقليل، وككل العيون التي شاهدتها خصص مكان للنسوة يمارسن فيه طقوس الغسل والشطف، والسباحة وإطلاق الكركرات، فتنساب مع الماء ثم تعلو لتطير في الهواء مع قرقعة الأواني التي تتوازن على قمة الرؤوس كأنها بقيا دخان تجمد هناك.
عندما كبرت كنت أتعجب من تلك الذكريات التي كتبتها شريفة الأمريكانية العاملة في مستشفى الإرسالية الأمريكية عن البحرين، مع أني ولدت بعد مذكراتها بفترة طويلة، إلا أني أتذكر جيدا العديد من العيون القريبة نسبيا من وسط المنامة (قصاري، أم الشعوم، أم البقر) والعديد من الآبار الارتوازية التي كانت يشرب منها خصوصا في البساتين (الدواليب) القريبة من قلعة الشرطة التي لا تبعد كثيرا عن المستشفى، وأتذكر أن في بيت أبي بئر ماء عذب، ردموه لكثرة نفوق الحيوانات فيه، بينما كان في بيت جيراننا من عائلة (المحروس) بئر، وفي هذا البيت ركن للهجران مغروس في أرضه كونه وقفا للذرية، كان البئر عذبا يفيض مع المد، ولازلت أتذكر سلحفاتين ظلتا وحيدتين ردحا من الزمن فيه أو حوله حتى جفت البئر بعد حين، كنت أتأمل هاتان السلحفاتان، وهما هناك حيث لا زرع ولا احد، من أين تأكلان، وأتساءل هل كانتا ضائعتين، أم رحل الجميع ونسوهما ولم يتذكرهما احد حتى بعد حين.
حلم على حجر
عندما تتكلم عن عين (أم الشعوم)، إنما تستحضر تلك الطقوس المخفية لنسوة كن ينسربن في عتمة غامرة، حاملين الهدايا، ليهدهدن مهودا لم يلدن لهن بعد، تظل نطفهم فيأفق التمني، كل اكتمال للقمر، كان عيدا للحب، يسطره اشتياق للأمومة، مفعم يشعل وجه الضوء، هناك يتكسر البيض، لكل حب، ست بيضات، لكل اشتياق، شيء من الحلوى المعجونة بالزعفران، اكتناز بالفستق، وذوبان بالحرارة في السكر، لتبقى مشتعلة في ليالي باردات، لتدفأ فراش خاو من المناغاة، ولتهرق اشتياق الأرواح على حجر التمني، قفزة، وأخرى مربوطة بطقس لا يكسر إلا وانكسرت معه الأمنيات، تتوالى القفزات حتى سبع، الهمهمات والتمتمات تتناثر كوسوسات الظلمة، متقنة كالقمر، كاستدارة البطن حين يشد الرجل من ساعديه، ليظل وفيا للفراش،هناك امرأة عجوز ظلت تنظر بعتب للقمر، وصبية يطير بها الرجاء، هنا تقف حجرة (أم حمار)، تلك الصخرة التي لو نطقت لتكلمت عن أشواق نسوة نسيهن القمر، كنت اختبئ تحت عباءة أمي لكي لا يشاهدنني أتلصص على ما لا اعرف، إذ تمطر الأحلام والقمر سيد السماء.
رأفة غامرة
تلك العين كانت على حواف المنامة في (الماحوز) تقريبا، ولازلت أفكر في حنان أولئك الذين تركوا فيها مساحة للحيوانات، إذ أنها تنقسم إلى قسمين، كان القسم الضحل منها مخصصا لاستحمام الحيوانات التي غالبا ما كانت الحمير تشكل الغالبية العظمي منها، ولفرط الدلال والرعاية كانوا يصبغون أعضائها بالحناء، فتبدو فاتنة خصوصا تلك البيضاء التي تسمى بالحمر (الحساوية).
في المنامة العتيقة وعند سوق الحدادة القديم، زريبة كبيرة تجمع فيها الحمير التي تكدح في توزيع المياه، ولكون المنامة مدينة قديمة تجد بها أزقة ضيقة كثيرة لا تعبرها السيارات، وعادة ما تفاجأ برجل يصرخ كأن عقربا لسعته على حين غفلة ليقول:(بيلر) ماطا الكلام حتى يعانق كل الأسماع بالاسم الشعبي للماء الصالح للشرب، وربما للكلمة علاقة بالبيدر، هذا الرجل من عائلة (الموت) أو ذاك من عائلة (أخاذ الأرواح) يقود عربة عليها صهريج ماء، يوزعه على البيوت، أو ربما تجد رجلا يتقاطع مع عصا تحمل برميلين من الماء وهو يتنحنح دخولا ليمارس طقوس الماء، أو تجد حمارا يتهادى بين الأزقة، وقد تدلت على جنبيه براميل دائرية صغيرة مربوطة بتوازن عجيب ليعبر بها تلك الأزقة الضيقة، في المساء يستحم بالماء وفي النهار يوزعه كأن الفتهما لا تنقطع.
دخان الذاكرة
عند سوق الحدادة، يقف الطفل بعد أن يتجاوز صاحب الدراجات الهوائية، عند فندق صحاري، ليقف على ذلك المنظر المملوء بالجد ورائحة العرق، تلك النغمات التي تصدرها المطارق، وهي تنزل جام غضبها على حديد عتيق، أججته النار حتى كاد يضيء، وتتعجب لرجلين نحيلين واقفين في حفرة حتى البطن تقريبا، كأنهما نصف مدفونين، يحيط بخصرهما برميل بلا سقف ولا أرضية، ذاهب في السمرة كصاحبيه، وهما يرقبان نارا تثور وتخبو، كلما حرك احدهما خيط ارتفع الكير ليهبط مرة أخرى، ليسمح للنار أن تتنفس بعد تعب شديد، تتحرك القطعة قليلا وهي تتمدد بفعل الطرق، وهما يتمايلان على صوت الإيقاع، يعمد احدهما دائما إلى طرقات ثنائية التوالي، كنت أتخيل انه يفعل ذلك لان مطرقته اصغر من صاحبه، ثم يعود الرجل النحيل ليدثر تلك القطعة بذلك الفحم اللامع في صلب النار، من كد أولئك الرجال كانت المسامير والمطارق وغيرها من الأدوات تصنع، لتجد مسمارا وحيدا على جزر نائية يضحك بعد سنين لإفلاته من سجن لوح قديم، أو ربما تجد مسجون سياسي لازال حتى اليوم يتحسس قدميه اللتان تركت فيهما علامة تلك الأصفاد التي كان يصنعها حداد القلعة.
هجرة ممعنة
لم أرى في حياتي ميناء يهاجر إلا ميناءها، على الرغم من الأساطير التي تشير إلى البحرين بوصفها دلمون القديمة، قالت عنها الأساطير:"لتكن دلمون ميناء للعالم"، ومنذ الصغر أدركنا قرب البحر لهذه المدينة التي يحتضنها من جهات ثلاث، وعلى الرغم من ذلك كانت (فرضة) المنامة التي تقع في طرفها الشمالي، عبارة عن ميناء صغير قليل العمق نسبيا، معد لاستقبال السفن الصغيرة التي تعمل بنقل الركاب بين البرين (البحرين والسعودية)، وبعض سفن البضائع وسفن الصيد، تلك الفرضة تقع مباشرة بعد باب البحرين، وربما بعد مبنى البريد الحالي مباشرة، ذلك الميناء الذي تحول اليوم إلى ميناء مالي، كان يتحرك إلى الأمام ليقتطع من عمق البحر إنصافا للبر، حتى غادر البحر أخيرا، في هجرة دائمة كالسندباد.
كان الميناء بالنسبة لنا والبحر بالنسبة لمعظم سكان هذه الجزيرة صديقا حميما، ومصدر رزق دائم يكاد لا ينضب، فكان عمل يوم في البحر يضمن غذاء نهار، وكنا نصطاد السمك من سواحله الغنية بأنواع مرغوبة من السمك (البياح، الميد، الزمرور، الصافي.. الخ)، وهي من الأسماك التي يمكن صيدها قريبا من الساحل، وربما تكون السواحل أكثر غنى بالأسماك من غيرها.
ظل الأيام
لا قيمة للمدينة من غير أهلها، وهل يمكن ملامسة الناس وهم كالوتر المشدود دون أن يطلق هذا صوته، عائلات (المخارقة) ذلك الحي الذي يخاصر الأسواق رقصا، تتمازج وتقترب وتبتعد في إطراف العالم، تتراصف وتتقاطع حتى تشعر أنها كتلة واحدة ممتزجة، نسبا، سكنا وجيرة، وعشرة، برغم تنوع أعراقهم ومذاهبهم التي لم يكن يعلم بعضها، (سنيها وشيعيها، عربيها وعجميها، بهرتها، بهائيوها، مسلموها، مسيحيوها، الباكستانيون، الهنود.. الخ)، لا يمكن لهذا الحي أن يكون بدون تلك الكتلة البشرية بكل أخلاطها التي سادها الوئام وروح التعايش، رغم ما ظهر بين الفينة والفينة، لكنه مضى لأنه كان طارئا، سرعان ما تخطاه الزمن لتعود الحياة بنبضها المتنوع، وإيقاعها المتسارع، لتهيمن بحيويتها المفرطة التي ربما كان التنوع سببا فيها.
ما تبقى في الذاكرة من العائلات اللائي سكن الحي، عائلة (المنصور) التي كان ابنها محمد صديقا وزميلا في الدراسة، عائلة العريض التي كانت تلاوة القرآن في صدر مجلسة زينة لليالي رمضان ككثير من البيوت، عائلية (سند) التي كان أولادها يبادلونا اللعب في الساحة التي احتضنتها البيوت في الليالي البيضاء، عائلة (القصاب)، عائلة (ضيف) التي مازال منزلها صامدا في مكانه كبيتنا القديم برغم الهجرات التي انتابت أهل الحي، عائلة (أسيري) التي غادرت منذ زمن، و(الجلاوي)، و(أبو إدريس)، و(الرياش) التي ذهب منزلهم نهبا للتطور، بيت (عابد)، (الباقي)، كما كان يسكن حينا احد أبناء العائلة المالكة في تلك الفترة الغابرة، عائلة (الصيرفي)، (المخلوق)، (العرادي)، (العلوي)، (البحارنة)، (الدرازي)، (الحواج)، (غريب)، (دشتي)، (النجار)، (الحساوية)، (خمدن)، (الشكر) الذي اشتهر دكانه بأنواع المقبلات التي تميز إعداده لها، (السماك)، (الصفار)، (التناك)، (الباش)، (المشقاب)، (السرو) وكثير من العائلات التي لا تحضرني أسمائها فليعذروني لكبر المساحة وتغير الزمان وختل الذاكرة.
استدارة الحنين
كلما نبشت الذاكرة عن ماض عشته، رماني على حجر الأماني وبراويز الاشتهاء، تلك هي استدارة الحنين الذي يغادر نحو المستقبل، لست اعرف إلا ما قيل عن أن الإنسان يتشكل بالمحن التي تفركه حتى يدمى، لعل أبقى ما يبقى في الذاكرة ألم الفراق، والتماعات المكان الساحر الذي شذبته الذاكرة، لتخرج منه لحظات الفقر والضعف والجنون، وصرخات ترتفع للسماء عن حبس الرزق، ذلك التفاؤل المشبوب الذي يرميه عمي على عتبات الباب وهو يغادر(على بابك يا كريم) ليرجع خالي الوفاض بعد يوم من الكد يشقق يداه فتدمى من جراح كانت ترسمها تلك العربة المزينة بدموعه وانكساراته وأنينه الدامي في بعض الأمسيات.
في المدرسة قال المعلم : لا تشتروا من الباعة الجوالين، إنهم ناس وسخون قذرون، ينقلون للناس الأمراض، حينها دخلت قاعة البكاء الفسيحة، لم يكن يعرف هذا المعلم أني كنت أحب عمي، ذلك البائع الجوال الذي يصب كد النهار والليل في عظامنا لتنمو، لم يكن يعرف ذاك المعلم معاناته وهو يجر تلك العربة من زقاق إلى زقاق، عله يلتقط زغب الرزق لأولاد ينتظرون بفرح ما تجود به الطرقات، لم يكن يعرف هذا أن عمي كان يبكي مساء حين لا يوفق في بيع بعض ما لديه، لم يكن يعرف هذا المعلم أن عمي لم يكن يأكل إلا من كد يديه، لم يكن يعرف أن نوم يوم لمرض عارض كان يعني قطعا للرزق، لم يكن يعرف وهو يكيل التهم لهذا المخلوق أنه كان في روحي يعلو، كأول طيارة ورقية أرسلتها إلى السماء، لم يكن يعرف أن عمي ردد في أيامه الأخيرة (الحي يريد وطنا والميت يكفيه الكفن)، لم يعرف ذلك المعلم ولم يرد أن يعرف. لأنه نص ولان النص أعمى.
لكل ذلك لا أتمنى أن أعود أو أن يعود بي الزمن، حنيني إلى الشوط الأجمل في السباق، ذلك الشوط الذي لم أركضه بعد، لم تجترحه كلماتي، لم ترتده مخيلتي، لم يسكنه إنسان بعد، يظل الاحتفاظ بالأمل قاعة للرقص أو للمهرجان، والأمل مبني على المستقبل، لذلك كنت أراقص كل يوم هذا الجيل الجديد لمدة تعانق خمسة وعشرين عاما، ارفض أن أعود إلى الطفولة والشباب، لقد كنت هناك، سؤالي عن الآتي وهو يتكون في ظلمات الحاضر مهما بدت متحجرة إلا أنها تمور، أكاد اسمعها.