بقلم: رضي الموسوي
كان صباحا حزينا يوم الثالث عشر من فبراير الجاري، فوق ما هو امتدادٌ لأيام غزة العصيبة وحرب الابادة الجماعية التي ينفذها العدو الصهيوني. في صباح الأثنين تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي خبر وفاة الصديق محمد يوسف الجودر بشكل مفاجئ إثر إصابته بنوبة قلبية في العاصمة المصرية القاهرة. وقع الخبر كالصاعقة على أصدقاء الفقيد من هول المفاجأة التي لم تترك سوى الصمت المطبق بالحزن واللوعة إحتراما للروح الطاهرة التي غادرتنا للتو، لتبدأ عملية نبش لذاكرة يقترب عمرها من نصف قرن، بالنسبة لي على الأقل، بينما تزيد ذكريات الأصدقاء والرفاق الآخرين عن نصف القرن.
تعرفتُ على الراحل محمد الجودر في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، كونه عضوا في الهيئة التنفيذية للإتحاد الوطني لطلبة البحرين ومسؤولا عن الثقافة والاعلام وتقع تحت مسؤولياته مجلة "المسيرة"، لسان حال الاتحاد، التي كانت تصدر بشكل دوري وتصلنا الكويت بانتظام، حيث يتم توزيعها على طلبة فرع الكويت والطلبة الاصدقاء في جامعة الكويت. لكن اللقاء الأول معه كان في بيروت حيث كان يدرس في جامعتها هناك، وذلك في نوفمبر 1978، عندما حطيت وعشرة من زملائي رحالنا فيها بعد عملية الإبعاد من الكويت إلى بغداد ثم إلى دمشق وأخيرا بيروت التي كانت تحتضن الجميع.
في شقة صغيرة بحيّ عين المريسة المحاذي لكورنيش المنارة البيروتي، استقبلنا الجودر وأثنان من زملاءه المقيمين معه. اكتظت الشقة الواقعة في الطابق الأول من العمارة بأربعة عشر شخصا، وكنا في حالة إنهاك وارتباك وقلق على مستقبلنا الدراسي.
تمكن محمد الجودر ومن معه بتسجيلنا في جامعة بيروت العربية، بعضنا غير تخصصه لعدم وجوده في الجامعة والبعض الآخر واصل في نفس التخصص.
كان الفقيد يمتاز بهدوء شديد يبعث فينا الأمل والقدرة على الإقناع وتبني رأيه. فرغم ضنك العيش بسبب الأفواه التي حلت في تلك الشقة إلا أنه لم يتبرم ولم يتأفف، بل كان منظما بشكل رائع، مشجعا ومتفائلا بأن هذه الفترة سوف تمر وسنتغلب على القلق المتزايد بمرور الوقت دون الحصول على القبول. خفف الوطء قبول أربعة منا في جامعة دمشق. لم يبقى أبا يوسف في بيروت طويلا، بل شد الرحال الى بغداد حيث كان يجرى التحضير للمؤتمر العام الثالث للإتحاد الوطني لطلبة البحرين، ويحتاج الأمر الى تحضير مكثف منه عقد انتخاب اعضاء وفود المؤتمر من فروع الاتحاد البالغة 15 فرعا منتشرة في الدول العربية والأوروبية والاتحاد السوفيتي والهند.
في تلك الفترة شهدتُ وبعض زملائي المبعدين حوارا ساخنا بين الراحل الجودر وأحد أعضاء الهيئة التنفيذية للإتحاد المنتمي لتيار آخر..كان هذا يصرخ في وجه محمد الجودر وكان الاخير هادئا واثقا من طرح وجهة نظره لدرجة أصابت الآخر بهستيريا الغضب وظننت انه سينقض على الجودر ليضربة، لكن خواتيم النقاش المحتدم انتهت بسلام.
كان شهر فبراير 1979موعدا لعقد المؤتمر العام الثالث للإتحاد، وكان أشبه بدورة مكثفة جدا في العمل النقابي والسياسي والفكري والثقافي. كانت الحوارات تمتد لساعات وتغرق قاعة المؤتمر بدخان السجائر حيث كان الاغلب مدخنا. تعثر المؤتمر في البداية مما أضطر قيادات العمل الوطني الدخول على الخط للتوصل الى تقاطعات وتفاهمات إزاء قيادة الاتحاد الذي كان يتشكل من تيارات ثلاثة: الشعبية والتحرير والبعث، وكان الخلاف يتمركز حول رئاسة الاتحاد وتشكيلة الهيئة التنفيذية والمجلس الاداري..بعد أيام عصيبة انبعث الدخان الابيض وأصبح محمد يوسف الجودر رئيسا للإتحاد الوطني لطلبة البحرين الذي يمثل طلبة البحرين في الداخل والخارج.
**
تصادف انعقاد المؤتمر الثالث للإتحاد مع أيام الغضب الكبرى التي أطاحت بشاه إيران وانتصار الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الخميني في الحادي عشر من فبراير 1979. أحدث انتصار الثورة زلزالا في منطقة الخليج والوطن العربي والجوار الإيراني بسقوط شرطي الغرب شاه إيران محمد رضا بهلوي. ساعد هذا على تكثيف العمل الطلابي من أجل إسقاط قرار المنع من السفر الذي صدر بحق أكثر من 200 طالب وطالبة يدرسون في الجامعات العربية والاجنبية، كإمتداد لقانون تدابير أمن الدول الصادر في صيف 1975.
كان على الفقيد محمد الجودر مسؤولية كبرى وهو رئيسا للإتحاد، وعليه الدفاع عن مصالح أعضاءه الذين حرموا من مواصلة دراستهم الجامعية.
لم يهدأ الجودر ورفاقه في سبيل انجاز مهمة إعادة الطلبة الى مقاعد دراستهم. ففي الوقت الذي كان يضع البرامج لاستقبال الطلبة المنتسبين لجامعة بيروت العربية وتقديم كافة الخدمات لهم، بدءا من السكن ومتابعة اوضاعهم وصولا الى فتح فصول التقوية لهم في العديد من المواد التي يمكن للطلبة المقيمين في بيروت القيام بمهمة التدريس النبيلة.
أتذكر أن المرحوم محمد الجودر غامر حجز فندق "ماي فير" ببيروت الغربية بالكامل، وكلفنا بالذهاب يوميا لمطار بيروت لاستقبال الطلبة المنتسبة القادمين من البحرين والمجيء بهم الى الفندق. كما قام بترتيب فصول التقوية في جامعة بيروت الامريكية وهي قريبة من سكن الطلبة، تم ترتيب فصول التقوية التي أتت أكلها بشكل جيد جدا.
**
"وكان الصيفُ مَوْعِدَنا
وكانت ﻓﻲ عيونك بسمةٌ تجلو
همومَ الغربة السوداء
حليبُ الشوق ﻓﻲ الأثداء
إلى عينيك يدفعنا
ألا يا حلوة العينينِ،
لو تدرينَ،
أن الكُلَّ يجحدنا
وأن الغربة السوداء، قد أدْمَتْ سواعدنا
ومرَّ الصيفُ، مرَّ الصيفُ، كان الصيف موعدنا"..
(للشاعر عز الدين المناصرة ولحنها وغناها الفنان البحريني خالد الشيخ تحاكي الممنوعين من السفر)
**
مع اقتراب صيف العام 1979، كانت التحضيرات على قدم وساق، وكان السؤال المركزي في قيادة الاتحاد والحركة الوطنية: كيف يمكن استثمار المعطيات لإحداث نقلة نوعية توصل إلى إسقاط قرار منع الطلبة من السفر، وكان على الجودر حمل ثقيل، ذلك أن الاراء في الهيئة التنفيذية متباينة حول التصعيد وتنظيم عملية الاحتجاج ضد القرار الجائر بحق طلبة الاتحاد.
أتخذ قرار المواجهة قبيل عودة الطلبة للبحرين لعطلة الصيف. ونزل بعض من قيادات الإتحاد لقيادة المواجهة بمعية القيادات الطلابية الموجودين في الداخل، وأدخلت الاعلاميات الضرورية للمواجهة، وبدأت بالكتابات على الحيطان في مختلف مناطق البحرين وتم توقيع العرائض من قبل المؤسسات الاهلية ونظمت اعتصامات بدأت بالاعتصام الشهير أمام وزارة التربية وأختتمت في مسيرة المحرق يوم الأول من سبتمبر إنطلاقا من مسجد أبو منارتين في المحرق.
قاد هذا الحراك لدراسة الموقف من قبل المسؤولين الرسميين، فقرر المغفور له الأمير الراحل سمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة الإجتماع مع ممثلي الطلبة الممنوعين، ثم صدر قرار إعادة جوازات سفر الطلبة الممنوعين من السفر والسماح لهم بمغادرة البحرين لاستكمال دراستهم الجامعية..وسقط قرار المنع من السفر مطلع سبتمبر1979.
**
مع عودة الطلبة للعام الدراسي الجديد، تكون الحركة الطلابية البحرينية قد انهت فصلا صعبا في حياتها، قدم فيه الكثير من الطلبة تضحيات كبرى لكنها حققت انتصارا نوعيا. انهى الراحل محمد الجودر دراسته وبدأ يشد أمتعته لمغادرة بيروت، وحط رحاله في الامارات وبدا حياته العملية وتزوج من أمرأة فاضلة هي الدكتورة فاطمة الرفاعي.
أربعة عقود ونيف مرت حقق الراحل نجاحات في عمله المهني. جرت مياه كثيرة تحت الجسر، لكن معدن هذا الرجل الأصيل لم يتغير..قبل عدة أيام من رحيله جاء للبحرين لتلقي العزاء في رحيل شقيقته، وكان لايزال متألقا متمتعا بصحة جيدة وبدماثة الأخلاق التي عرفه أصدقاءه وزملاءه بها..لكنه القدر.
رحم الله محمد الجودر وأسكنه فسيح جناته،
لروحه الطمأنينة والسلام، ولزوجته وأبناءه وأهله وذويه وأحباءه وأصدقاءه جميل الصبر والسلوان.