نتابع اليوم المقال الذي كتبته كورنيليا دالنبرج، الممرضة بمستشفى الإرسالية الأمريكية في البحرين، في عام 1949م.
بعد مرور بعض الوقت على خروج طيوبة من المستشفى ذهبتُ لزيارة أهلها في قرية عالي. هذه القرية صغيرة وتقع على بعد حوالي عشرة أميال من مستشفى الإرسالية ويسكن فيها البحرينيون الشيعة، وسط القبور التلالية التي تشتهر بها هذه الجزيرة لكن اصل هذه التلال الغامضة لا يعرف عنه القرويون شيئا. إنهم يصنعون الفخار ويرعون المزارع وينتجون واحدا من مواد البناء في البحرين والمعروفة بـ "النورة" وهي مسحوق ابيض ناعم يستخدم كطبقة طلاء أخيرة على داخل وخارج الجدران. الحجر الذي يصنع منه النورة يتم حرقه في أفران كبيرة مبنية داخل بعض التلال الأكبر حجما. وعلى سفح واحد من هذه التلال توجد مساحة مزروعة من أشجار النخيل الخضراء مع بعض الأكواخ المبنية من سعف النخيل وفي أحد هذه الأكواخ وجدت طيوبة. قضينا وقتا ممتعا مع بعض وسألني أهلها عن جميع صديقاتهن في المستشفى. هؤلاء النسوة البحرينيات لن ينسين تلك الأسابيع التي مكثنها معنا كما إننا سوف لن ننسى صديقاتنا في عالي.
أما الحاجية فاطمة فهي امرأة كبيرة في السن بعينين بنيتين متلألئتين وشعر متموج مصبوغ بالحناء الداخل بحوالي نصف بوصة للمفرق الأوسط حيث يكون الشعر ابيض. لقد قامت برحلة الحج الطويلة إلى مكة مرتين ورحلة الزيارة الأقصر الى كربلاء والنجف ١٢ مرة على الأقل.
والكثير من النساء البحرينيات سافرن إلى مكة لكن القليل جدا منهن يطلق عليهن (حاجية)، وتخمن فاطمة أن هذا اللقب حصلت عليه ربما بسبب كونها (ملّاية) أي قارئة قرآن ففي كل يوم من أيام الأسبوع تذهب من بيت إلى بيت مع قرآنها، حيث تقرأ هنا على طفل مريض ، وتقرأ هناك لإخراج روح شريرة من بنت ثم إلى بيت قراءة التعزية ثم ربما إلى المأتم لقراءة عمومية . إنها يطلق عليها (ملّاية) أي معلمة. في الجزء الأول من ساعات الصباح قبل ذهابها للقراءة يكون لديها (صف) لتعليم القرآن لحوالي ١٢ ولدا وبنتا من الصغار، حيث يجلسون على الأرض أو على سلال رطب مسطحة مع حوامل للقرآن مصنوعة من قطعتين متقاطعتين من الخشب في مقدمتها، وجميعهم يقرؤون بصوت عال. وتجلس الحاجية على حصيرة بالقرب منهم مع النارجيلة (القدو) أمامها وتقوم بالنفخ في أنبوب كل بضع دقائق بينما هي تستمع اليهم. بعض الأطفال يقضون معها وقتا طويلا بما فيه الكفاية لتعلم القرآن بأكمله لكن معظمهم يبقون لعدة اشهر فقط تسميها الحاجية (دليل) لإكمال هذه الفترة التحضيرية قبل ذهاب الأطفال إلى المدارس العامة.
في احد الأيام سقطت الحاجية على عتبة بابها وانكسرت رجلها. لقد جلبت الشفاء للكثيرين بقراءاتها الدينية لكنها عجزت عن إشفاء نفسها. احضرها ابن أختها عباس إلى مستشفى الإرسالية، وبعد تصوير الرجل بأشعة إكس تم وضع طبقة من الجبس عليها. في البداية لم تكن تفكر إلا في ألمها لكنها أصبحت تدريجيا اكثر راحة وتعودت على الجبس ثم بدأت تهتم بالأشياء التي حولها. ونظرا لكونها امرأة معروفة جيدا في المنطقة الشيعية من المدينة، كان يأتي لزيارتها الكثير من النساء ويجلسن معها لساعات وهن يدخنون (القدو) ويشربن الشاي والقهوة. كانت خديجة تبدو كملكة بينهن، جالسة فوق سرير المستشفى المرتفع، المسنود بالمخدات الضخمة الصلبة التي احضروها من بيتها، والى جانب طاولة سريرها هناك أعشاب طبية وزجاجات متنوعة تحتوي على أدوية محلية ورائحة زكية وقناني صغيرة من الزيوت العربية. قرآنها كان دائما إلى جانبها على السرير.