بقلم محمود القصاب
في السادس من فبراير الجاري عُقدت في مقر التجمع القومي الديمقراطي ندوة بمناسبة الذكرى الثالثة والعشرين لصدور ميثاق العمل الوطني تحت عنوان: (( ماذا تحقق .... وماذا لم نحقق من الميثاق؟؟)) شارك في هذه الندوة بعض ممثلي الجمعيات السياسية وعددٍ من الشخصيات الوطنية والمعنيين بالشأن الوطني العام، وقد انصب حديث المحاضرَين وهما: الدكتور "حسن مدن" والدكتور "حسن العالي" ومعهما كل المتداخلين من الحضور حول واقع العمل السياسي الراهن والوضع الاجتماعي عموماً، وبعض الأفكار المتعلقة بالجانب الاقتصادي، مستحضرين ميثاق العمل الوطني باعتباره وثيقة وطنية حملت منظومة مبادئ وأفكار مهمة هدفها إحداث تغييرات جوهرية وجذرية في منهج عمل وأداء أطراف الدولة، اضافة إلى تحديث وتطوير مؤسساتها، والوقوف بالتالي على حجم ما تحقق من هذه الأفكار والأسس.
بعد مرور ما يقارب الربع قرن على صدور الميثاق (عام 2000م)، وقد جاءت خلاصة كل المداخلات ووجهات النظر بأن هناك تراجعاً طال كل المستويات سياسياً واجتماعياً واقتصادياً تقريبا، وأن الوضع بشكل عام يفرض حاجة ماسة إلى رؤيه اصلاحية جديدة تفتح معها مساراً سياسياً واجتماعياً تتخلله بعض الإضاءات القادرة على كشف مواطن الفشل والإخفاق في تجربتنا السياسية، ومن أجل أن تكون الرؤية أكثر صفاءً ووضوحاً، وأنه لابد ان يكون المواطن هو المنطلق والهدف في هذه المراجعة، بمعنى لابد من حضور إرادة وتطلعات المواطنين كي نتمكن من مواجهة حالة الإخفاق التي وصلنا لها بعد الإقرار بوجودها وبالأسباب التي أوجدتها؟.
والشيء الملفت في كل النقاشات التي دارت في تلك الندوة هو إجماع كل المتداخلين على طرح سؤال هام ومشروع هو : ( ما الذي تبقى من الميثاق؟) وواضح أن هذا السؤال بقدر ما يؤشر إلى حالة الأحباط واليأس من جدوى العمل السياسي فإنه يعكس في ذات الوقت حجم الفشل والإخفاق في تنفيذ رؤى وأهداف ميثاق العمل ، خاصة ما جرى في أعقاب أحداث (فبراير 2011) وتداعياتها فقد تم إفراغ العمل السياسي من محتواه الحقيقي، وأصبحت " السياسة بدون سياسة" كما يقال، وتحولت إلى مجرد مماحكات شخصية ومناكفات طائفية وضغائن وأحقاد لاحدود لها.
وفي ظل هذه الأجواء المأزومة سياسياً والمشحونة طائفياً استطاعت السطوة الأمنية فرض نفسها ومنطقها كخيار وحيد للتعاطي مع تلك الأحداث، ولعل الإقرار بكل هذه الحقائق يمثل أول خطوات الطريق الصحيح لطرح كل الإشكاليات والملفات الشائكة التي أفرزتها تلك الأحداث، والبحث عن إجابات وحلول واقعية لها وهو أمر لا يمكن بلوغه دون اطلاق مبادرة لحوار شامل وصريح نتجاوز معه ومن خلاله كل المعوقات السابقة، يوصلنا إلى ما نطمح إليه من بناء مشروع دولة وطنية ديمقراطية تسود فيها العدالة والمساواة ويغيب عنها كل إقصاء أو تمييز لدوافع سياسية أو طائفية أو عرقية!؟
ونحن هنا عندما ندعو أو نطالب بالحوار ليس غرضنا التوقف عند الماضي واجتراره ، أنما عيوننا في اتجاه المستقبل، والعمل على توظيف دروس ما حصل في إعادة النظر في بعض المواقف والسياسات من أجل مصلحة البلد، وهنا يأتي دور الدولة ومعها كل القوى السياسية والمجتمعية لتأكيد صدق توجهاتنا وحاجتنا إلى وعي وطني نقدي يلائم ظروف المرحلة الراهنة وتحدياتها للخروج من نفق الأزمات إلى فضاء الحلول العملية لكل المشاكل الساسية والاجتماعية والاقتصادية.
وأن يتم كل ذلك على قاعدة من التوافق الوطني وتكريس مفهوم الانتماء للوطن وتقديم المصلحة العليا على أي مصلحة أخرى، خاصة ونحن نلمس اليوم وجود مناخ اجتماعي إيجابي مشجع يحمل شحنة من التفاؤل بعد أن تجاوز مجتمعنا مرحلة الإنقسام الحاد والاستقطاب الطائفي وبقى على الدولة بصورة خاصة التخلص من حالة الإقصاء والعزل السياسي لبعض القوى السياسية الوطنية.
وهذا ممكن عندما تقرر الدولة فتح النوافذ السياسية ودخول الحوار خياراً حقيقياً وأساسياً، وبذلك يتم تحويل حالة الإخفاق والتراجع الراهن إلى فرصة لمغادرة كل تداعيات وسلبيات احداث 2011 وما قادت إليه من انقسامات حادة تراجع معها الخطاب الوطني لصالح خطاب الكراهية والمصلحة الفئوية، وتراجعت معها أيضاً كل "معايير" التعايش و"قيم" التسامح التي يتميز بها مجتمعنا كما إشاعت تلك الاحداث مناخا من التمييز الطائفي غير المسبوق ساهم في تنامي الشعور بالظلم وتغذية المشاعر الملتهبة.
وقد كشفت كل هذه التداعيات عن هشاشة وضعف الديمقراطية التي طالما تغنينا بها، وغياب الكثير من عناصرها ومرتكزاتها لذلك عجزت هذه الديمقراطية الناقصة عن توفير مناخ الحرية المناسب للتعبير عن الرأي والمطالبة بالحقوق، وغاب معها كل هامش للعمل والحراك السياسي والمطالب المشروعة، وأكدت فشلها في استقطاب التحرك الشعبي آنذاك، فالديمقراطية هي أولاً وأخيراً وسيلة لبلوغ هدف كرامة المواطن وحريته وأمنه واستقراره.
هنا يأتي دور وواجب القوى السياسية وكافة قوى وأفراد المجتمع للتخلص من حالة التمترس القديم حول ذات المواقف والرؤى، وتجاوز كل ما يعطل الوصول إلى حلول عملية وموضوعية تفتح الباب أمام التوافق حول كل الملفات الوطنية كشرط ضروري للخلاص من كل الأزمات وتحقيق الاستقرار لبلدنا، وليس معنى هذا ان تتطابق وجهات نظر و آراء هذه القوى حول كل القضايا، إنما من الضروري ان تعمل جميعها على خلق مساحات مشتركة وتهيئة السبل أمام إنجاز هدف المشروع الوطني الجامع لكل البحرينيين بمختلف اطيافهم الاجتماعية وتوجهاتهم السياسية والفكرية، وهذا يتطلب قبل كل شيء ان تتداعى هذه القوى لعقد لقاء موسع لمناقشة كل القضايا بروح من المسؤولية والجدية والخروج بخطة عمل أو خارطة طريق يتم من خلالها قراءة الواقع كما هو وتشخيص الأسباب الحقيقية التي تقف وراء فشل وإخفاق تجربتنا السياسية واقتراح الحلول لمعالجتها .
ومن الضروري أن لا تغفل هذه القوى عن التعقيد الذي يلف المشهد السياسي في بلدنا والمنطقة عموماً، وكذلك عدم إغفال التشابك أو التداخل بين أوضاعنا الداخلية والتطورات الخارجية من حولنا وما تشهده المنطقة من توترات وتهديدات لا يستهان بها، فهناك حقيقة لا يمكن القفز عليها وهي: أن بلدنا يعيش في حيز جغرافي وأقليمي مضطرب تتصارع فيه وعليه مختلف القوى الاقليمية والدولية وتحيط به العواصف السياسية والأمنية.
لكل هذه الأسباب والظروف بات خيار الحوار هاماً وأمراً ملحاً، وتتحمل الدولة المسؤولية الكبرى في خلق الأجواء المناسبة لعقد ونجاح هذا الحوار طالما هي من يمتلك القرار وسلطة تغيير الواقع الراهن، حتى يتمكن بلدنا من تحويل حالة الإخفاق إلى فرصة نجاح للتجربة السياسية ومواجهة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تزيد من درجة الاحتقان ومن تراجع فرص نهوض البلد على كافة المستويات خاصة ونحن ندرك أن ضياع فرص الحاضر هو ضياع وخسارة سنوات من المستقبل.