بقلم محمد حسن العرادي
لا تبدوا الأمور في سياقاتها الطبيعية في البحرين على صعيد الديموغرافيا والتنمية المجتمعية، وحتى على صعيد النمو الاقتصادي، خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم والدين العام والفقر، وانخفاض مستويات المشاركة السياسية وانحسار الالتفاف الشعبي الكبير الذي صاحب فترة الموافقة على ميثاق العمل الوطني بنسبة 98.4 %، فقد سارت العلاقة بين الحكم وأغلب المكونات السياسية بعد المرونة والتجاوب الإيجابي الواعد، إلى مسارات التأزم مما أدى إلى صدام قاد إلى الفراق والطلاق البائن مع أهم التيارات السياسية المعارضة.
لقد كان الجميع ينظر بعين الرضا والأمل إلى المسار الديمقراطي الذي دشنته مرحلة الانفتاح والإصلاح السياسي مع مجيء جلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة -حفظه الله- ورعاه، وقد استبشرت كافة القوى والمكونات المجتمعية والشعب بأسره بأن تكون البحرين نموذجاً متميزاً في مسيرة التحول الديمقراطي في المنطقة العربية.
بل إن البعض نظر إلى المشروع الإصلاحي باعتباره تهيئة مُستحقة للبحرين لتولي موقع الريادة في المشاركة السياسية، وقدر أنها ستكون قاطرة التحول الديمقراطي وتعزيز الحكم الرشيد المستند على حضور والتفاف شعبي كبير، خاصة حين انخرطت كافة فصائل المعارضة السياسية في العملية الديمقراطية وتجاوزت العديد من التحفظات التي كانت سجلتها على آلية تطبيق وإدارة العملية الدستورية وفق ما قيل عن التحول إلى ملكية دستورية على نمط الديمقراطيات العريقة.
وكان الأمل هو أن تتطور العملية الديمقراطية ويتم تعزيز المشاركة بشكل تدريجي، إلا أن ذلك لم يحدث وفق التقديرات المنتظرة، ولم تكد العملية التشريعية تُكمل دورتين من عمرها حتى وقعت الفأس في الرأس، وانهار جدار الثقة وانقطعت قنوات التواصل والعمل المشترك بين الحكم والمعارضة، إبان اندلاع موجة الربيع العربي التي أصابت البحرين في مقتل، ودمرت أكبر فرص المشاركة في العملية السياسية، ثم قاد ذلك إلى اندلاع أزمة سياسية غير مسبوقة، أودت بالكثير من البرامج والمشاريع التنموية إلى نهايات مأساوية غير منتظرة.
لقد كان قرار انسحاب نواب وأعضاء المجالس البلدية المحسوبين على المعارضة نقطة اللاعودة في تدهور وانهيار الثقة بين الطرفين، وعليه ترتب الكثير من الخطوات التي عمقت من الأزمة وضاعفت من تداعياتها، وإذا كنا نُحمل المعارضة مسؤولية كبرى لما حدث نتيجة قرارها المنفعل، فإن الحكومة التي كانت ولا تزال الطرف الأقوى، وصاحبة التجربة الأطول تتحمل الوزر الأكبر في انزلاق الأمور في هذا طريق المسدود.
لقد مارست الحكومة أقسى وأقصى وأعنف درجات ردات الفعل، ودفعت بمجموعة من القوانين الرادعة إلى المنظومة القضائية، بشكل يفوق حاجة وقدرة البلاد على التحمل والتعاطي، وكان نتيجة ذلك صدور العديد من الأحكام القاسية التي زجت بأعداد كبيرة من المواطنين في غياهب السجون والمعتقلات، وفقدان الكثير منهم موارد رزقهم بصورة جعلت الحياة صعبة ومرهقة، كما قاد ذلك إلى تكدس الهاربين واللاجئين في المنافي ودول الاغتراب خوفاً من الملاحقات والأحكام الأمنية الطويلة والقاسية، الأمر الذي فاقم من تداعيات الأزمة وصعب من إمكانية حلها طوال أكثر من عقد من الزمن حتى الآن.
لقد خلق تمدد الأزمة السياسية والأمنية الكثير من الأزمات المتناسلة على كافة الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية والتنموية، وقاد ذلك إلى عزوف أعداد كبيرة من النشطاء وابتعادهم عن المشاركة خوفاً من الوقوع في المحظور والمساءلة، أو تحاشياً للسقوط في صراع ذي أثمان باهظة على الصعيد الشخصي والاجتماعي.
وقد ساهم ذلك في بروز قيادات ميدانية بديلة، ومع احترامنا لكل فرد بحريني، لكن بعضها لا يتمتع بالخبرة والتجربة المناسبة فأربك ذلك الوضع المتأزم بالضرورة، وقد سرّع هذا الأمر من عمليات الصدام وردات الفعل والانتقام والعنف المتبادل، وما ساعد على تعزيز هذا الانهيار، سرعة إصدار التعديلات القانونية الإقصائية التي جرمت الكثير من النشطاء وحيدتهم عن العمل الاجتماعي والسياسي والأهلي، وأدى ذلك إلى تراجع جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني عن القيام بدورها الذي كان قادراً جبر الضرر وتخفيف التوتر والاحتقان.
الآن ونحن على مشارف الذكرى الثانية عشرة لحراك الرابع عشرة من فبراير 2011 بحاجة إلى وقفة تأمل وتقييم تعيد المياه إلى مجاريها، وتصلح ما أفسدته السياسة وردات الفعل التي قامت بها جميع الأطراف، تصحح الأخطاء وتتراجع عن المواقف السياسية الحادة والمتشنجة، التي قادت البلاد إلى خسائر عديدة، وأدت فعليا إلى حرف المسار الديمقراطي، حتى بات المشروع إطاراً فارغاً لا يحمل محتوى قادراً على التطور وتعزيز اللحمة الوطنية، خاصة ونحن نشاهد هذا التباعد والتنافر بين مختلف أطراف العملية السياسية، وكل يمني نفسه بنصر ساحق ماحق يثبت وجهة نظره ويدلل على صحة اختياراته.
إن الأوطان لا تبنى بالعناد وتبادل التصيد بين المكونات الاجتماعية وأطراف العملية السياسية، بل تبنى وتزداد شموخاً عبر التسامح ونشر ثقافة المشاركة والاعتراف بالآخر، والقبول بهامش من الاختلاف الذي يجب أن يدار وفق آليات سلمية ديمقراطية داخل البيت الواحد وتحت ظل الخيمة الوطنية الكبرى.
إن من أهم آليات الديمقراطية وقفات التقييم والمراجعة والمرونة والشجاعة في قياس التحديات السابقة والقادمة واستبصار الفرص لمستقبل يحتاج إلى كل العقول والأيادي الخيّرة لمعالجة التداعيات السلبية والانطلاق الواعي بصورة مخلصة صادقة من أجل الوطن وأهله.
أمامنا شهر كامل قبل موعد 14 فبراير 2023، نحتاج فيه إلى تبريد الساحات بدل تسخينها وتأجيجها، وإلى فتح قنوات التواصل والبحث عن فرص حلول بدل التخندق في ذات المواقف المتشنجة، وحبذا لو أن الحكومة بقيادة سمو ولي العهد تسارع إلى إطلاق حزمة من المبادرات التي تهدئ النفوس وتستوعب الخلافات وتفتح مسارات جديدة للحوار الوطني الذي يهدف إلى الخروج من الأزمة استعدادا لبث المزيد من جرعات الأمل وصناعة المستقبل الآمن الذي يحتاج إليه الوطن، والله من وراء القصد. ....