(نصف قرن على تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة البحرين)
بقلم محمد حسن العرادي
يخطئ من يعتقد بأنه قد حقق إنتصاراً كاسحاً حين تمكن من وأد تجربة الاتحاد الوطني طلبة البحرين الذي تأسس في دمشق العربية بعد نجاح المؤتمر التأسيسي الثاني المنعقد خلال الفترة 15- 25 فبراير 1972، لأن من إتخذ قرار تصفية الاتحاد وسعى له او ساهم في تنفيذه على الأرض وجه ضربة مؤلمة وقاصمة إلى جسد العمل الأهلي البحريني في مراحله الأولى، بل أنه هز أركان وقواعد العمل المجتمعي وهو لا يزال طرياً وفي أطوارٍ جنينية.
لقد جاء تأسيس الاتحاد ثمرة جهودٍ مضنيةٍ بذلها طلبة البحرين المنضوين تحت إطار الروابط الطلابية البحرينية التي تأسست منذ ثلاثينات القرن العشرين في العديد من العواصم العربية والعالمية، مع بدء البعثات الطلابية الأولى التي ساهمت في النهضة الحضارية الحديثة، بل إنها وضعت اللبنات الأولى للدولة الحديثة في البحرين وصاغت العديد من الطموحات والتطلعات التي تحولت فيما بعد الى هيئات ومؤسسات رسمية وأهلية بما في ذلك دورها الكبير في مجالي التعليم والصحة باعتبارها القواعد الأولى للتنمية في أي مجتمع.
كما لعبت الروابط التي تحولت فيما بعد إلى فروع للاتحاد الوطني لطلبة البحرين دوراً رئيسياً في تفريخ وإعداد الكوادر الوطنية ذات الكفاءة التي ساهمت في تأسيس القطاعات الرئيسية الثلاثة في المجتمع البحريني، فهؤلاء الطلبة الذين تخرجوا من مدرسة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين هم من شكلوا العمود الفقري الرئيسي للقطاع الحكومي بكافة وزاراته، وهم من إشتغل بتطوير القطاع الخاص، وأينما ذهبت ستجد العديد من رجال الأعمال الناجحين الذين تأسسوا وتعلموا القيادة في أروقة ودهاليز العمل داخل فروع الإتحاد، اما القطاع الاهلي فحدث ولا حرج.
لقد نقل الخريجون المتمرسون في العمل النقابي تجربتهم الرائدة إلى القطاع الأهلي وبادروا الى تأسيس الجمعيات الأهلية والنقابات المهنية في مختلف المجالات، وإذا كان عدداً من مؤسسات المحتمع المدني قد انبثق من رحم الروابط الطلابية قبيل الاستقلال، فإن فروع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين كانت المصدر الرئيس لعددٍ كبيرٍ من النشطاء الذين قادوا وتحملوا العبئ الاكبر في تأسيس الجمعيات المهنية والمجتمعية التي خرجت للنور في بداية السبعينات من القرن المنصرم.
إن جمعيات مهنية كبيرة كان لها الباع الطويل في خدمة المجتمع البحريني ونشر الوعي الثقافي بين أبناءه، يرجع الفضل في تأسيسها إلى الخريجين القادمين من فروع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين في مختلف أرجاء المعمورة، بل إن مختلف قرى البحرين قد شهدت نشاطاً ملحوظاً وحركة تأسيس واسعة للأندية الرياضية والثقافية والاجتماعية، وخاصة في الإجازات الصيفية التي كانت تعج وتضج بالنشاط الصيفي الطلابي للاتحاد الذي ركز على فتح فصول محو الامية وتقوية طلبة المدارس مجاناً، فضلاً عن المساهمة في تغذية العمل الصحفي والإعلامي الذي وجد أمامه مخزونا كبيراً من الشباب المثقف المتحمس والجاهز لممارسة العمل الصحفي، وخاصة إجراء التحقيقات الصحفية في مختلف الميادين الاجتماعية التي كانت تشكلت لبناتها الأولى في تلك الحقبة.
خمسون عاماً بالوفاء والتمام مرت على ذكرى تأسس الاتحاد الوطني لطلبة البحرين على يد ثُلة طيبة من الشباب البحريني الوطني المخلصين لهذا البلد، بعضهم قضى نحبه، وبعضهم احيل الى التقاعد، واغلبهم لا يزال قابضاً على المبادئ صادعاً بالافكار والمشاركات التي اضاءت سماء الفمر والتنوير، هؤلاء جميعهم ساهموا بدور كبير في البناء والتنمية بعيداً عن أي حسابات شخصية أو طائفية، حين كرست فروع الاتحاد في قلوبهم النابضة بحب البحرين انتماءاً وطنياً خالصاً لا يعرف الحدود، فساهموا في وضع قواعد العمل المشترك، وتعزيز مفهوم الشراكة المجتمعية والمسؤولية الاجتماعية، ونتج عن ذلك الجو وتلك البيئة التي خلقوها، نفس وطني لا يفرق بين المواطنين على أساس العرق أو اللون أو الطائفة أو الجنس، حتى تجسدت الوطنية في الانتماء وتكرست فرص التعاون والشراكات المجتمعية في كافة الميادين.
لقد أخطأ من إتخذ القرار بتصفية الاتحاد الوطني لطلبة البحرين وساهم في وأد تجربته الرائدة، وها نحن لا نزال حتى اليوم نحصًد النتائج الطيبة للمجهودات التي جسدتها تلك التجربة الوحدوية النقابية الرائدة في مسيرة العمل الوطني الاهلي والتطوعي،
ولازلنا نستذكر تلك التجربة بكل الفخر والاعتزاز والتي للأسف قضي عليها كلياً في نهاية فترة التسعينات وأستبدلت بتجربة الأندية الطلابية التي انطلقت في العام 1976 لتساهم في تفريغ أهم وأنشط وأكبر فرعين للاتحاد الوطني لطلبة البحرين في دولة الكويت وجمهورية مصر العربية من كوادرها، وتساهم في تجفيف منابعها من الطلبة الجدد، وهكذا تم تسطيح العمل الطلابي وتفريغه من مضمونه وإنجازاته بمساعدة هذه الأندية التي حظيت برعاية تامة وبدعم رسمي كبير من الأجهزة المعنية، في حين تعرضت مختلف فروع الاتحاد الوطني الى التضييق والاستهداف والملاحقة.
وكانت الضربة الموجعة القاصمة تلك التي تلقتها قيادات الاتحاد الوطني لطلبة البحرين في صيف العام 1977 حيث صدر قرار المنع من السفر وشمل عشرات بل المئات من الطلبة القياديين، وشكل ذلك الصيف اللاهب ذروة المواجهة والهجوم ضد الاتحاد وكوادره، حيث قامت السلطات الأمنية حينها بمنع أغلب القيادات الطلابية خاصة رؤساء وأعضاء مجالس إدارات فروع الاتحاد المنتشرة في أكثر من 14 بلداً في تلك الفترة، وقد تزامنت تلك الضربة مع تنسيق أمني عالي المستوى من الأجهزة الأمنية في عدد من الدول العربية للتضيق على كوادر الاتحاد وملاحقتهم، مما أدى إلى بداية تراجع أنشطة الاتحاد وتقليل عدد المنتمين اليه بسبب الخوف والطمع.
لقد عانى بعض الطلبة من هاجس الخوف والملاحقة الامنية عند عودتهم إلى أرض الوطن، كما عايشوا الاستهداف من خلال قطع البعثات والمنح المالية عنهم، وصعوبة حصولهم على الاعمال أو التوظيف في مختلف وزارات ومؤسسات الدولة التي كانت آنذاك في طور التشكل والتأسيس، الأمر الذي ادى إلى امتناع وغزوف عدد كبير من الطلبةعن الالتحاق بفروع الاتحاد، في حين شكل الطمع والطموح بتقلد مواقع مسؤولية في مختلف أجهزة الدولة هاجساً ودافعاً نحو الانتماء إلى أندية طلبة البحرين في الخارج، خاصة مع التسهيلات والدعم المالي الكبير الذي كان يحصل عليه المنتمين لتلك الأندية.
ويمكن القول بأن عهد شق الحركة الطلابية البحرينية التي كانت تعتبر واحدة من أنشط الحركات الطلابية العربية من خلال المواقف القومية العربية التي كانت تتخذها في دعم حركات التحرر وخاصة الموقف المبدئي تجاه القضية الفلسطينية، إضافة إلى الفعاليات والأنشطة الكبيرة التي كانت هذه تقيمها وتتيح من خلالها الفرصة لاكتشاف الابداعات والمبدعين في كافة المجالات، الأمر الذي ساهم في رفد الحركة الثقافية والمسرحية والفنية والموسيقية، وخاصة من خلال الحفلات السنوية التي كانت فروع الاتحاد تقيمها سنوياً وتفتح أبوابها لمختلف الطاقات البحرينية للبروز والانتشار.
لقد استقطب الاتحاد الوطني لطلبة البحرين أغلب الفنانين البحرينيين وإحتضنهم ووفر لهم البيئة المناسبة التي شجعتهم على تقديم مهاراتهم وابداعاتهم، فضلاً عن بروز عدد من الشعراء والكتاب ولأصوات والكوادر الفنية التي تم اكتشافها في حفلات الاتحاد الوطني المختلفة من صفوف الطلبة المنتمين للاتحاد، والذين أصبح لهم شأن كبير فيما بعد، وشاركوا في تمثيل البحرين وتقديم العديد من الاعمال الوطنية المشرفة، بل انهم ساهموا في تطوير وتسجيل العديد من النجاحات الفنية والغنائية والمسرحية والثقافية والأدبية في مختلف المحافل الغربية والدولية، كما لم يغفل الاتحاد الوطني لطلبة البحرين الاهتمام بالحركة الرياضية، فقد كان يحتضن المنتخبات الرياضية الوطنية التي تزور الدول التي توجد فيها فروع له، حيث شكل الروابط اللازمة لتشجيع هذه المنتخبات ودعمها بكل ما يستطيع، وقد ساهم ذلك في تعزيز الانتماء الوطني.
ومن المؤسف القول بأن من إتخذ قرار تصفية الاتحاد كان ينظر بعين واحدة فقط لأنشطة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، وتحديداً العين الامنية باعتبار أن عدداً من القيادات البارزة والأعضاء الناشطين في مختلف فروع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين كانوا منتمين إلى الحركات والتيارات السياسية التي كانت تمارس أنشطة معارضة ضد الحكومة، وخاصة المنتمين إلى تيار الجبهة الشعبية في البحرين وتيار جبهة التحرير الوطني البحرانية وتيار حزب البعث العربي الاشتراكي، ولا يستطيع أحد أن يُنكر تأثير هؤلاء النشطاء الذين انشغلوا جزئيا بالسياسة على فعاليات الاتحاد وتطويرها أيضا، رغم الأجواء التنافسية التي وصلت الى حد الاشتباك السياسي بين المؤيدين لهذه التيارات، لكن ذلك لم يكن يشكل ضرراً فادحاً يستوجب محاصرة التجربة والعمل على تصفيتها، بل كان من المؤمل الاستفادة من هذه الكوادر وإستيعابهم والاستفادة منهم في مختلف القطاعات الفاعلة، فكم كانت الدولة الفتية والمتحفزة للبناء المؤسسي والتنمية ستكسب من طاقات داعمة لكل مجالات النهضة.
ولا بد من الاعتراف بأن هذه التنظيمات قد لعبت دوراً ايجابياً في تحفيز الطلبة على الدخول في تجارب العمل السياسي وبناء الكوادر والطاقات التنظيمية، وساهمت في تعزيز كفاءتهم وقدراتهم الخطابية والحوارية والقيادية بصورة عامة، كما ساهمت في إطلاّعهم على القضايا السياسية المختلفة المنتشرة في الوطن العربي، وهي تجارب فتحت أفق الكثير من الطلبة على إنتماءهم العربي والأممي أيضا، وقد ساهم ذلك في صياغة الشخصية الوطنية الملتزمة بالقضايا المصيرية للأمة، خاصة وأن البحرين كانت في طور نسج علاقاتهها العربية والدولية مع بداية عهد الاستقلال وفتح سفاراتها وعلاقاتها الدبلوماسية مع العديد من الدول التي نشطت فيها فروع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين.
ان الانتماء لهذه التنظيمات السياسية لم يكن شراً مطلقاً كما صورته أو تَصَوَرته الأجهزة الأمنية في تلك الفترة، بل كان فرصة سانحة لإطلاق الحوارات الوطنية للاستفادة من هذه الكوادر الجاهزة والمؤهلة لدعم انطلاق تجربة الاستقلال والبناء والتنمية، وتعزيز حضور البحرين في كافة المحافل الدولية، خاصة وأن هذه الكوادر كانت مؤهلة لتنظيم وإعداد المؤتمرات والمعارض والورش والمشاركة في الفعاليات الدولية في مختلف قارات الدنيا، وكان يمكن لمؤسسات الدولو إستيعاب هذه الكوادر بدل إستعدائهم ومحاربتهم وتحويلهم إلى خصوم سياسيين، حتى وصل الأمر الى الزج بالعديد منهم في غياهب السجون والمعتقلات فترات طويلة.
واليوم وبعد خمسبن عاماً من تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، حان الوقت لإعادة الاعتبار لهذا الاتحاد وكوادره ودورهم الوطني الكبير ، الذي تكرس بصورة واضحة وجلية بعد إطلاق المشروع الاصلاحي لجلالة الملك المعظم، ومشاركتهم في صياغة الميثاق، واطلاق الحوارات الوطنية وتجاوز الازمات والصدامات السياسية، بل إنها ساهمت في تأسيس الجمعيات السياسية التي جاء معظم كوادرها من بين الخريجين الفاعلين في فروع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين،
وفي تصورنا أن الوقت لم يفت بعد لإعادة النظر في تجسير العلاقة مع هذا الكم والكيف من الطيف الواسع لخريجي مختلف فروع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، خاصة ونحن نتابع العديد من هذه الكوادر وهي تبدع في العطاء على مقاعد مجلس النواب ومجلس الشورى والمجالس البلدية وللهيىات والمؤسسات والشركات المختلفة، الأمر الذي يؤكد الحاجة لإعادة النظر في إحياء تجربة الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، التي كانت بمثابة مصنع للكفاءات والكوادر الوطنية في كافة المجالات.
في الذكرى الخمسين لتأسيس الاإتحاد الوطني لطلبة البحرين نتذكر الأناشيد الوطنية التي ترنم بها الطلبة والطالبات، وعبرها ومن خلالها تكرس حبهم وولائهم لأوطانهم وعروبتهم مثل " ذكرى ميلاد إتحادنا ، ذكرى عزيزة على قلوبنا، ذكرى النضال وعهد الصمود نشق الطريق لأهدافنا،
وسنبقى نتذكر ايامنا وانتمائنا للاتحاد بفخر دائماً، وايضا نتذكر نشيدة " تحيا ذكرى الخامس والعشرين من فبراير، شعلة مضيئة في مسيرة النضال من فبراير" تلك الذكرى التي لا تزال تُشعرنا بالفخر والرفعة والانتماء الوطن والعشق لترابه.
ومن الأناشيد الخالدة التي تغنينا بها " أوال أحييك فلتسلمي، وما عشت يا أم لن تظلمي، دمي يا بلادي وما في يدي نداء يحييك ملؤ الفم، أنا بعض ما في ثراك الطهور، ومن ذا الى الأرض لا ينتمي، فدتك النفوس إذا ما دعى الى الموت داعٍ، قلت هذا دمي"، ومن الأناشيد الخالدة أيضا " وطني أوال، وطني الذي قد غردت له الطيور، وسجل التاريخ أسماءً له، فوق البحار وفي النخيل، وفوق هامات الجبال، وطني أوال"، ومن الأناشيد المجيدة أيضا " طريقنا أنت تدري، شوكٌ ووعرٌ عسير، موتٌ على جانبيه لكننا سنسير، الى الأمام، الى الأمام سنسير" وهكذا كان الاتحاد الوطني لطلبة البحرين يعزز روح الانتماء والولاء لهذا الوطن المعطاء ، وها نحن نسجل إعتزازنا وفخرنا بانتمائنا لهذه التجربة التي ساهمت في صياغة وبناء شخصيتنا، وشكرنا وتقديرنا لكل الذين تعلمنا منهم وعلى أيديهم الدروس الأولى في الوطنية والعمل النقابي، والله من وراء القصد .