بقلم محمد حسن العرادي
تتكون المجتمعات الإنسانية من الرجال والنساء، وكلما تكاملت الأدوار بين الجنسين كلما أصبح المجتمع أكثر نُضجاً وأقوى تماسكاً وقدرة على تأسيس أسر مترابطة متعاونة توفر لأبنائها أفضل سبل العيش والتعليم والصحة والحياة، وفي المقابل كلما انفرط عقد الأسرة وتفككت وعاشت الانقسام الاجتماعي والاقتصادي، كلما تدمر المجتمع وزادت فيه حالات الطلاق والانفصال وتشتت وضياع الأبناء وإرتفعت الأنانية والذاتية المدمرة.
ورغم أن قطار التعليم في البحرين قد تجاوز المائة عام حتى الآن، إلا أن هناك من يفكر في شق المجتمع بين قسمين رجالي يسود ونسائي يُساد، وبمقتضى هذا التفكير فإن القضايا جميعها تُفسر من منطلق الهيمنة الذكورية التي تستوجب أن تكون المرأة مجرد ديكور مُكمِل وتابع للرجل مهما علا شأنها في المجتمع علماً وتخصصاً، لذلك يرى أصحاب هذه النظرة أن المجتمع لا يحتاج إلى عمل المرأة إلا في الحدود الضيقة.
وعندما يمعن أصحاب هذه الرؤية في الانتقاص من المرأة وإستلاب حقوقها مثل حقها في إختيار نوع دراستها أو نوع عملها، بسبب عقدة التفوق الذكوري الطاغية التي لم يفلح الدين أو العلم في تهذيبها، سنجد أن هذه النزعة الاقصائية التي شكلت لدى بعض الرجال عقدة، ربما تكون غطاءً لضعف القدرة على التحكم في مجالات كثيرة يشعر فيها الرجل بأنه غير فاعل ولا رأي له يُستمع إليه، خاصة إذا كان يعاني الاضطهاد وتحكم أرباب العمل في مستقبله.
وقد يكتشف الرجل بأن الأبناء أصبحوا بعيدين عنه فكراً وسلوكاً وإهتماماً، وربما لديهم إهتماماتهم التي لم يتمكن من التعرف عليها إلا بعد فوات الأوان، خاصة إذا كان قد أوكل مسؤولية التربية والتنشئة للمرأة بشكل منفرد في أغلب الأحيان، خاصة إذا تضخمت لدي الرجل الأنا وأصبح يعيش دور "رب الأسرة"، متناسياً وجود "ربة الأسرة" إلى جانبه، والتي قد تمارس في حقيقة الأمر معظم الأدوار التربوية لبناتها وأبنائها، بل وتدير شؤون البيت والأسرة بصورة مثلى.
إن علينا الاقتناع بأن المرأة إنسان ومواطن كامل الأهلية، كفل لها الدستور والقوانين كافة الحقوق التي تمكنها من ممارسة أدوارها في الحياة والشأن العام بكفاءة واقتدار، وعليه يحق للمرأة اختيار مجالات تعلمها وعملها وجميع شئون حياتها التي تقتنع وترغب بها طالما هي لا تخالف الدين ولا تنتهك قواعد وعادات المجتمع ولا تتجاوز حقوق المواطنة، خاصة وأن النساء في مجتمعنا يتمتعن بحسٍ المسئولية الكامل، وهن يقدمن الدعم والمساندة لاسرهم كي تمضي عجلة الحياة بقدر مناسب من الاستقرار والسلام.
ولا شك أن ذلك ينطبق على الرجل الذي يقوم بدور هام وضروري أيضاً فهو سند الأسرة وعماد الاستقرار فيها "لكن ليس بمفرده"، فكل من الرجل والمرأة يشكلان أعمدة المجتمع المستقر الذي يمكن أن يتحقق بصورة أمثل وأكمل عندما تساهم المرأة والرجل في تنميته وتقدمه.
وعليه لا يمكن الاستجابة للدعوات الغريبة وغير المقبولة التي نشطت مؤخراً لتحديد نوعية الأعمال التي تتولاها المرأة بحجة توفر المزيد من الرجال لشغلها، إن الأصل في العمل هو الكفاءة والمنافسة العادلة وليس جنس من سيمارسه، كما لا يمكن معاقبة المرأة بسبب تفوقها أو قدرتها على النجاح بحجة أنها ستأخذ موقع الرجل، فمن قال إن هذه المواقع للرجال فقط، إن العمل حق للمواطنين رجالا ونساء كفله الدستور، بحسب وبقدر كفاءتهم وقدرتهم الانتاجية وليس بحسب جنسهم.
أما الحديث عن حصر الحق في العمل في مجالات معينة للرجال فقط، فهو نوع من التعالي الذكوري والعجز عن معالجة الأسباب الحقيقية وراء إستشراء ظاهرة البطالة في المجتمع البحريني ربما بسبب خوف البعض من المساءلة، خاصة وأن هناك العديد من الأسر التي تُعال من قبل النساء بصورة كاملة أو مشتركة نظراً لتخلي الرجال عن مسؤولياتهم واستسهال التخلي عن الأسرة، أو نتيجة للظروف المعيشية الصعبة التي يصبح فيها دخل الرجل غير كاف لإعالة الأسرة.
ان ملف البطالة في البحرين يعتبر مشكلة وطنية بامتياز، وهو ملف تعاني منه المرأة والرجل على حد سواء، ودون شك فإن حل هذا الملف الشائك يقتضي معالجة أمور أساسية مثل إعادة هيكلة سوق العمل المختلة لصالح العمالة الوافدة والسائبة، وتضخم أعداد العمالة الأجنبية بشكل غير مسبوق في البلاد والذي ترك الكثير من النساء والرجال المواطنين خارج سوق العمل، ليس بسبب قلة كفاءة أو خبرة، ولكن بسبب تسلط مافيات ولوبيات الأجانب على قطاعات كبيرة من سوق العمل واحتكارها، بعد أن اُتيحت لهم الفرص بدون ضوابط، تحت دعاوى عدم تقييد الاستثمار والنفتاح الإقتصادي، وقد عاد ذلك على مجتمعنا بالكثير من الأذى والسلبية.
لقد بتنا نستمع إلى بعض المطالبات غير العقلانية أو الواقعية المنادية بإقصاء المرأة عن العمل في مجالات معينة بحجة منافستها للرجال، الأمر الذي يشير الى أن البعض قد أضاع بوصلة الأولويات المجتمعية تماماً، لأن الواقع الحالي والمستقبلي يشي بالكثير من التحديات الاقتصادية والتنموية القاظمة، وذلك يتطلب تعزيز الشراكات المجتمعية على كل صعيد من أجل بناء المجتمع والنهوض بأعبائه، وذلك يتطلب التعرف والتأقلم مع الأدوار المجتمعية الجديدة للمرأة العاملة المتعلمة المتفوقة وتمكينها بشكل واعي.
إن المرأة تمتلك ذات القدرة على العطاء في عملها وكافة مناحي ومجالات الشأن العام، تماما كالرجل، وذلك بسبب تميزها في العطاء وإكتسابها التعليم والخبرة، إلى جانب المساهمة في بناء الأسرة بذات الكفاءة والقدرة، كل ذلك بالتعاون مع الرجل الشريك الأساس، وليس بالتنافر والنزاع أو الخضوع لمنطق التسيّد غير العقلاني، من هنا فإننا نطالب الجميع بالتوقف عن خلط الأوراق والتوجه لمعالجة ملف البحرنة كمشكلة وطنية ذات أولوية تمس المجتمع وحياة الأفراد والأسر بغض النظر عن جنسهم.
وفي هذا المجال وبسبب الوضع الاجتماعي والاقتصادي البائس الذي نعيش فيه نتيجة مزاحمة الأجانب وعدم القدرة على الاعتراض في ظل أجواء الخوف والتوجس، وبسبب التهميش للكثير من فئات المجتمع إلى جانب إنحسار دور مجلس النواب كمؤسسة تشريعية فاعلة وتحوله الى مكان للاستعراض والتضييق على المواطنين، وليس الوقوف مع مصالحهم والدفاع عنها، بالإضافة الى التفريط في حقوق المواطنة عبر تهويشات وكليشيهات لم تعد تجدي أو يصدقها أحد، ومما يؤسف له أن أداء مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني والتي يُفترض أنها ترعى مصالح الناس وتوعيتهم ومساندتهم، قد تراجع إلى مستويات غير مسبوقة حين وجدت نفسها مكبلة بالقوانين والقرارات التي جعلتها شبه مشلولة وسط مجتمع يمور بالمشكلات والمعاناة.
إن ما يطرحه البعض لا يزيد عن كونه اسطوانة قديمة مشروخة وبالية تستخدم عادة لاتهام النساء بمزاحمة الرجال في الوظائف العامة والخاصة عندما تضيق سبل العيش ويبلغ العجز أشده عن المطالبة بحل مشكلة البطالة والتي هي أم المشكلات وأخطرها، والجميع يعلم بأن التخبط والعشوائية وتضارب القوانين قد ساهم في فتح سوق العمل أمام العمالة الوافدة في كل وظيفة ومهنة حتى انعكس ذلك سلباً على كامل المجتمع برجاله ونساءه.
إننا مطالبون بأن نكون على قدر المسئولية لمواجهة ما يتفشى من فساد وظلم وانتقاص للحقوق ومواجهة الجهات التي تتسبب بها بما يحفظ كرامة الجميع، مع أهمية الابتعاد عن الانصياع للمبدأ المعروف في علم النفس (بالإزاحة) حينما نجبنُ عن مواجهة مصدر الخطر الحقيقي فنختار الطرف الأضعف والأقل تهديداً لنا، لنصُب عليه جام غضبنا.
إن مما يؤسف له أن يستأسد بعض الرجال على النساء من خلال النظر لهن كطرفِ ضعيفٍ يسهل إستهدافه، أو بسبب عدم قدرة المهاجمين والمتنمرين على مواجهة واقعهم السيء، أو بسبب شعورهم بالنقص والعجز من مواجهة الحقيقية تجاه الغبن الذي يمارس ضدهم، مما يدفعهم للبحث عن البدائل الضعيفة التي لا تشكل تهديداً حقيقياً لهم في المجتمع وتحميلها المشاكل التي تستعصي على الحل والمواجهة.
ولا بد من القول بأننا كمجتمع لا نُعلم بناتنا ونصرف عليهم دم قلوبنا حتى يأتي من يطالب بجلوسهن في المنزل او على قارعة الإنتظار بحجة مزاحمتهن للرجال، فالمجتمعات تتشكل من الرجال والنساء على حدٍ سواء وكلما تكامل الطرفان تسامى المجتمع وحقق أعلى درجات الكمال والنمو والتطور الانساني الحقيقي، فاذا كان لأحد القدرة على التشخيص والمطالبة بالإصلاح فليضع يده على الجرح، وليبحث عن المواطن الحقيقية للأخطاء ويطالب بإصلاحها بدل تشتيت إهتمام المجتمع وزرع الشقاق والفتن بين فئاته ومكوناته،
والله من وراء القصد.