بقلم محمد حسن العرادي
تمتلك قوى اليسار الوطني في البحرين تاريخاً طويلاً من العمل الوطني المشترك، الذي جسدته وحدة الساحات والمعارك السياسية طوال عقود من العمل السياسي، منذ انطلقت التنظيمات السياسية اليسارية في بناء هياكلها التنظيمية في النصف الثاني من القرن العشرين.
وقد شهدت العلاقات التنظيمية بين هذه التيارات (الأحزاب السياسية) موجات من المد والجزر طوال أكثر من نصف قرن من الزمان جسدت خلالها مفاهيم العمل الوطني المشترك في مجالات مختلفة من النضال بغية تحقيق غدٍ أفضل للوطن والمواطنين في البحرين، وقد تمثل ذلك بصورة جليه في التنسيق ووحدة المواقف في كثير من المحطات النضالية الملهمة التي رافقت العمل الجماهيري المنظم والتي شكلت جوهر العمل السياسي قبل الإستقلال عن التاج البريطاني في العام 1971، وإستمر ذلك التنسيق الوطني عالي المستوى في صور عديدة بعد الاستقلال وقيام الدولة الحديثة وصولاً الى العام 2002 حين إنطلق المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، مما أدى إلى تحول هذه التنظيمات إلى العمل العلني من خلال الجمعيات السياسية التي تأسست اعتبارا من ذلك العام.
لقد تركز العمل السياسي المشترك بين فصائل اليسار الوطني البحريني في المنظمات الجماهيرية المشتركة، وكانت العلاقة بين جبهة التحرير الوطني البحراني، والجبهة الشعبية في البحرين ومنظمة حزب البعث العربي الأشتراكي في البحرين في أوجها على صعيد العمل المشترك في المجال الطلابي من خلال التنسيق والجهود المخلصة التي أثمرت عن قيام الإتحاد الوطني لطلبة البحرين الذي تأسس في 25 فبراير 1972، معلنا عن توحد الروابط الطلابية وربطها في إطار نقابي واحد تكفل بالدفاع عن حقوق الطلبة البحرينيين، وساهم في النهوض بقطاع التعليم الجامعي مع بداية تشكيل الدولة الحديثة، بل وعمل على نسج العديد من علاقات التعاون مع دول لم تكن البحرين ترتبط معها بأي علاقات دبلوماسية والحصول على بعثات جامعية في مختلفة التخصصات العلمية والتجارية والأدبية.
لقد شكل الإتحاد الوطني لطلبة البحرين أحد أهم نوافذ وروافد العمل السياسي الوطني، وخرّج أجيالاً من الكوادر الوطنية التي ساهمت في تحمل عبئ المسئولية في تأسيس العديد من المؤسسات والهيئات الرسمية والخاصة، وكان الطلبة الأوائل الذين التحقوا بالدراسة الجامعية خارج البحرين نواة أساسية لقيام الدولة منذ البعثات التي التحقت بالدراسة في العراق وسوريا ولبنان، فجاء من بينهم الوزراء والوكلاء والمدراء والمبدعين الذين حملوا المسئولية الوطنية على أكتافهم جنباً الى جنب مع مختلف المساهمين في تشييد هذا الوطن من أبنائه وأهله.
وهنا لابد من الإشادة بالدور الكبير الذي لعبته التنظيمات السياسية ذات التوجه اليساري الوطني في صقل قدرات وإمكانات هؤلاء الطلبة وتدريبهم وتعزيز ولائهم وإنتمائهم الوطني، بل والمساهمة في توفير المقاعد الدراسية لهم في أهم الجامعات العربية والعالمية، وقد ساهم إنخراط العديد من الطلبة الجامعيين في العمل النقابي الطلابي، ومن ثم انتماء المئات منهم إلى التنظيمات السياسية اليسارية في تطوير قدراتهم القيادية وإبراز مواهبهم الإبداعية في مجالات عدة.
إن من الخطأ التاريخي التعامل مع التنظيمات السياسية اليسارية الوطنية بإعتبارها مناكفة ومشاكسة للسلطة، فقد كانت تلك التنظيمات تمتلك رؤية سياسية مختلفة لم تُتح لها الفرصة لتنمو وتتطور بشكل طبيعي بل تعرضت للكثير من موجات القمع والاستهداف، الأمر الذي لم يسمح لها بتطوير أجهزتها وبنيتها التنظيمية لتقدم أرضية ورؤية عملية ناضجة للتحول الديمقراطي والعمل الحزبي الحديث كما حدث في العديد من دول العالم .
لقد كان جُل عمل هذه التنظيمات السياسية اليسارية مُنصباً على إعداد الكوادر وصقل المواهب والطاقات التي إنصهرت وانشغلت في بناء الوطن وساهمت في نهضته الحديثة،
ويمكن الإشارة بالبنان إلى العديد من الكوادر التي تبوأت مناصب قيادية في مختلف أروقة الدولة وشركات ومؤسسات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني من بين منتسبي الاتحاد الوطني لطلبة البحرين وكانت أدوارهم السياسية مؤثرة وفاعلة (اليسار الوطني) وكان لإلتحاقهم بالاتحاد الوطني الدور الأساس في اعدادهم وبنائهم الفكري والسياسي رغم القمع الممنهج الذي تعرضوا له للأسف!
ويمكن القول بأن العمل التنظيمي في المجال العمالي والمجال النسائي قد شكل ساحة نشاط متميزة أخرى أفرزت العديد من الكوادر الوطنية التي إنخرطت في بناء الدولة ومؤسساتها وميزتها عن غيرها من الدول المجاورة، وكان للتنسيق والتكامل بين المنظمات الجماهيرية التابعة للتنظيمات السياسية الدور الأساس في تربية جيل مُلتزم بالمسئولية والهوية الوطنية بعيداً عن المذهبية والطائفية المقيته، وفي أحيان كثيرة كانت روح التنافس والتكامل بين هذه التنظيمات السياسية تُسهم في إبراز افضل الطاقات الوطنية، رغم الكثير من المُعاناة والتضحيات والخسائر بسبب الملاحقات الأمنية القاسية التي كانت تمارسها أجهزة الأمن بقيادة الضُباط البريطانيبن والعرب والأجانب بصورة عامة الذين ساهموا في التأسيس لحالات من العداء بين النظام وبين هذه التنظيمات، وعملوا على وأد الكفاءات الوطنية وإقصائها من خلال شيطنتها والزج بها في غياهب السجون تحت غطاء الحفاظ على هيبة الدولة ومصالحها، في حين أن الهدف كان ضمان إستمرارية هؤلاء الأجانب في مناصبهم لنيل المكاسب والمناصب وتكديس الأموال والسلطة.
إن قوى اليسار البحريني الوطنية إستطاعت على مدى عقودٍ من الصُمود والإستمرار رغم قسوة آلة البطش التي أودت بحياة العديد من كوادرها ومناضليها تحت وطأة التعذيب فضلاً عن آلاف المناضلين الذين عانوا من عذابات السُجون وزنازين الإعتقال، وكان من المفترض أن يقود ذلك الى تعزيز العلاقات النضالية الوطنية بين هذه التنظيمات ويقربها من بعضها البعض لتكون ذخراً وزاداً لهذا الوطن ولكن!!
لقد سادت روح التنافس والخلافات الفرعية على روح التعاون والتنسيق بين هذه التنظيمات في مراحل مختلفة، وبرز ذلك جلياً بين كوادر جبهة التحرير والجبهة الشعبية على مستوى الداخل وفي المُنظمات الجماهيرية خارج الوطن، وقد تُرجم ذلك على شكل تزاحم حول حق التمثيل العمالي والنسائي والطلابي في حُضور المحافل الدولية المختلفة وفي الخيارات السياسية الصحيحة، وهو ما أسهم في شرذمة العمل الوطني والتقليل من تاثيره ونتائجه، بل وساعد الأجهزة الأمنية على التفرد بعناصر كل تنظيم سياسي على حدة، والنجاح في محاصرتهم وشل قدراتهم، كما أدى إلى تعطيل العديد من الطاقات والكوادر الوطنية وتفكيك بُنية وهياكل بعض المُنظمات الجماهيرية الناجحة وأهمها مُحاربة وانهاء تجربة الإتحاد الوطني لطلبة البحرين الرائدة التي استمرت حوالي 15 عاما وكان يمكن لها أن تمتد وترفد مشروع الإصلاح ولكن!!.
ولو أن هذين التنظيمين السياسيين العريقين (التحرير والشعبية) قد تمكنا من تحييد خلافاتهما كما حصل في مراحل تاريخية حاسمة والدخول في تحالفات سياسية وعمالية وطلابية ونسائية حقيقية على شاكلة لجنة التنسيق بين التنظيمين التي استمرت في قيادة الجهود المشتركة بينهما فترات طويلة وخاصة على مستوى الخارج بقيادة الراحلين المهندس عبدالرحمن النعيمي الامين العام للجبهة الشعبية والأستاذ احمد الذوادي الامين العام لجبهة التحرير رحمهما الله، حيث كان التنسيق بين التنظيمين على أشده في المجال الإعلامي والعمالي والحقوقي والسياسي، لكانت النتائج مختلفة وإيجابية بشكل كبير.
لقد استمرت فرص التنسيق والعمل المشترك حاضرة وبقوة حتى لحظة العودة إلى البحرين عندما صدر العفو العام واُسقط قانون أمن الدولة والغيت محكمة أمن الدولة اللذين طبعا بالسلب واجهة العمل السياسي لعقودٍ من الزمن، أطلقت خلاله يد الأمن في متعابعة وتقصي ومحاصرة الكوادر السياسية والحزبية، وخاصة المنتمين لهذين التنظيمين السياسيين الوطنيين، وكان يمكن لتجربة تأسيس جمعية العمل الوطني الديمقراطي - وعد التي جمعت كوادر وانصار التيارات الثلاثة الشعبية، التحرير والبعث بقيادة الراحل جاسم فخرو رحمه الله، أن تكون بوتقة واحدة لعمل نضالي ديمقراطي موحد، ونموذجاً لتنظيم يساري عابر للطوائف والمذاهب ورائد في مجال العمل الوطني المشترك، لكن العقلية الفردية والحزبية التي طغت على كوادر التنظيمات، ساهمت في تقويض هذه التجربة وضيعت الفرصة التاريخية لتوحد قوى اليسار الوطني مرة اخرى، فهل لا تزال هذه الفرصة، سانحة ذلك ما سنتناوله في مقالات لاحقة.