بقلم محمد حسن العرادي - البحرين
خلال السنوات القليلة الماضية صَدعت رؤوسنا قضايا الخصخصة، التي أصبحت كابوساً يهدد مستقبل أبنائنا ويقلل من فرصهم في الحصول على وظائف ملائمة في سوق عمل تطغى عليه العمالة الوافدة ويحال المواطنون فيه إلى التقاعد في سن مبكرة فيصبحون مجرد متفرجين بعيدين عن المساهمة او الاهتمام بقضايا الوطن وفرصه الاقتصادية، التنموية، أو الاجتماعية، مهمشين مركونين جانباً رغم قُدراتهم وخبراتهم وقدرتهم على العطاء.
بينما يحتل الوافدون الوظائف التي ينتجها الاقتصاد الوطني، بحجة أن البحرين سوق عمل مفتوح، البقاء فيه للأفضل والأقوى كما بشر بذلك وزير الصناعة والتجارة في اكثر من مناسبة، بعد أن كانت خطة التنمية الاقتصادية 2030 تُنادي بأن تكون الأفضلية للمواطن البحريني.
لقد ساهم مفهوم الخصخصة الذي بشرت به الدولة في تحويل العديد من القطاعات الخدمية والانتاجية إلى القطاع الخاص، ساهم ذلك في إبعاد المواطن البحريني من معظم هذه القطاعات، وقدم وظائفهم للجاليات الأجنبية على طبق من ذهب بعد أن تحول سفراء بعض الدول الآسيوية في البحرين إلى مدراء وكالات توظيف تعمل ليل نهار على اقتناص الفرص المتوفرة وتوطين المزيد من مواطنيهم في بلادنا، حتى باتت أعداد القوى العاملة الوافدة تتفوق على أعداد السكان وتتنافس على من يحتل المركز الأول في سوق العمل من حيث العدد ومقدار التحويلات المالية السنوية.
وبحجة تقليل التزامات الدولة وتخفيف أعباءها، عمدت بعض الشركات والمصانع الوطنية الكبرى التي انشئت لتساهم في توفير فرص عمل مناسبة للمواطنين، عمدت إلى تأسيس شركات توظيف موازية تابعه لها، تقوم بالتعاقد مع العمالة الوافدة لصالح هذه الشركات الكبرى والمصانع من غير أن يظهر ذلك في نسب البحرنة العالية التي تفاخر بها تلك المصانع والشركات الكبرى، وهكذا سُرقت الوظائف من أبنائنا أمام مرأى ومسمع منا وفق رؤية فتح البلاد امام الاستثمار الأجنبي على مصراعيه، وترك سوق العمل سائباً أمام المنافسة بين الجميع وبدون أي أفضلية للمواطن حتى وإن كان ذا كفاءة وتخصص وشهادات علمية.
من المعروف إن الخصخصة تتولاها وتديرها شركات عالمية متعددة الجنسيات ذات مداخيل خيالية وقدرات هائلة على الاستحواذ، وهي تعمل على جعل الدول مجرد راع ومراقب ومنظم للقوانين والتشريعات، وتعمد إلى إبعادها عن دور المنفذ والضامن لتقديم الخدمات للمواطنين بأسعار مناسبة، ويؤدي ذلك إلى تحجيم دور الحكومة والحد من قدرتها على التدخل للتخفيف من آثار هذه الخصخصة الضارة.
أن مشاريع الخصخصة بالمجمل يكون معيارها الأول الربح بل مراكمة الأرباح، فإذا ترافق هذا مع قدر قليل من تدخل الدولة لحماية رأس المال البشري العائد لها (المواطنين) يكون من شأن هذا الاسهام العمل على إقصاء المواطنين وجعل أغلبهم على قارعة الطريق والتسكع في المقاهي والمجمعات التجارية لتقطيع الوقت، ولن يجدي في ذلك قيامهم بتوزيع (cv) السير الذاتية الخاصة بهم في كل مكان وجهة، وسيصبحون على قائمة الانتظار لنداء للعمل الذي لا يلوح له أفق.
لقد حان الأوان لوضع ضوابط ومعايير مهنية تستعيد فرض نسب بحرنة مُلزمة في جميع الشركات والمصانع والمؤسسات العاملة في البحرين، بما في ذلك شركات دفع العمالة التي تؤسسها تلك الشركات والمصانع للتحايل على نسب البحرنة، ويتطلب ذلك تطبيق وتقديم مفاهيم مختلفة لمشاريع الخصخصة تحافظ على أفضلية البحريني لسوق العمل من زاوية التنمية المجتمعية التي تحمي حقوق المواطن وتشركه في إدارة نفسه والدفاع عن مصالحه.
إننا نطالب بتعزيز النظام الإداري اللامركزي، الذي يشرك المواطنين في إدارة مجتمعاتهم ويحرص على البحث لهم ولأبنائهم عن الخيارات الأفضل من الخدمات الراقية بأسعار أقل وجودة أعلى من خلال إتاحة الفرصة لهم لإدارة أموال الضرائب والرسوم التي تجبيها الدولة من رواتبهم ومناطقهم، ثم تقوم الدولة بتوظيفها بمعرفتها دون أن يكون للمواطنين أو من يمثلهم دور في توجيه هذه الأموال ورسم خطط استثمارها وادارتها.
لقد إبتكرت الدولة العديد من آليات جمع الأموال عبر الضرائب المباشرة وغير المباشرة على شكل رسوم وتراخيص، وهي تقوم تكديسها في مؤسسات وهيئات يتم إدارتها بشكل مختلف عليه وغير قادر على تحقيق الربحية المطلوبة او تقديم الخدمات المبتغاة، فهذه الجهات المشرفة على إدارة الاموال العامة لم تثبت حسن التوجيه والادارة في استثمار الأموال والاصول على مدى أكثر من نصف قرن منذ قيام الدولة وحتى الآن، كما أن الدولة لم تقدم أي من المشرفين والمسئولين المتهمين بسوء الادارة والتسبب في الهدر الكبير لهذه الاموال للمحاسبة والملاحقات القانونية.
لذلك فان الوقت قد حان لاطلاق مشاريع خصصه اجتماعية تنموية تختلف عن الخصخصة الاقتصادية التي يستفيد منها القطاع الخاص فقط، والتي تؤدي في الغالب لتراكم رؤوس أموال هولاء وزيادة نسب وقيمة الأموال المهاجرة خارج البلاد على شكل تحويلات مالية، أو تكدسها على شكل استثمارات غير مجدية في صناديق سيادية دولية ترتفع فيها نسبة المخاطر وتقل فيها العوائد والفوائد التي من الممكن والمفروض ضخها في الاقتصاد الوطني أو ضمان الاحتفاظ بها في صندوق الأجيال القادمة دون مس.
لقد ساهمت بعض القوانين والتشريعات التي فتحت سوق العمل والاستثمار والتملك الحر في إدخال شركات اخطبوطية متعددة الجنسيات إلى السوق البحريني الصغير، وقللت إلى حد كبير من حظوظ المواطن البحريني الفرد أو أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على المنافسه، ما ادى الى خروج العديد منها من السوق نتيجة عدم قدرتها على المنافسة والبقاء، وحل بديلاً لها وعنها مؤسسات وشركات أجنبية ساهمت في إحتكار قطاعات عمل واسعة، تم اقصاء المواطن منها بشكل كامل او شبه كامل. مع الأخذ بعين الاعتبار ان هذه المؤسسات لم تكن مشاريع ربحية للمواطنين فقط ولكنها كانت مشاريع دعم اجتماعي توفر الاستقرار والاستمرار لكثير من المواطنين وتحفظ مستوى عيش كريم لهم.
وفي ظل وجود شركات احتكارية ذات رأسمال مفتوح ومملوكة بنسبة كبيرة أو بالكامل لمستثمرين أجانب، لوحظ أن العديد من المصانع والشركات الانتاجية والخدمية التي يتم افتتاحها في المناطق الصناعية المختلفة، تعمل على حصر وظائفها ومعظم فرص العمل بها لأفراد من الجاليات الوافدة دون غيرها وبدون مبرر اقتصادي او اجتماعي، فأبناء البلد قادرون على اداء غالبية الأعمال والمهام التي تؤديها العمالة الوافدة، لكن هذه المصانع والشركات اصبحت حكراً على هذه الجالية وتلك القومية دون غيرها، حتى ان إعلانات التوظيف والشواغر لا يعلن عنها في السوق البحريني، بل انها تنشر في بلدان هذه الجاليات والقوميات باللغات الاجنبية المستهدفة وبصورة سافرة، إلى جانب أن الكثير من فرص العمل المستحدثة في تلك الشركات والمصانع يتم شغلها من أهالي ومعارف المدراء ومسئولي الموارد البشرية الاجانب في هذه الشركات وبسرية تامة دون الاعلان عنها بأية وسيلة.
ويمكن القول أن القوانين والتشريعات التي سمحت بهذا النوع من الاستفراد والاحتكار قد اضرت بالاقتصاد الوطني أيما ضرر، فقد ساهمت في تحويل فرص العمل إلى العمالة الوافدة على حساب العمالة الوطنية وحولت أغلب الشركاء الوطنيين إلى سماسرة أعمال ووسطاء هامشيين بدل أن يكونوا رجال أعمال وسيدات أعمال يخدمون الاقتصاد الوطني ويساهمون في تنميته وتطويره، الأمر الذي جعل أغلب منافذ الانتاج والصناعة والخدمات بيد المستثمرين الأجانب والعمالة الوافدة، وترك للمستثمر الوطني والعمالة الوطنية العيش على المساعدات الاجتماعية والاستثناءات التي يحصل عليها، في قيمة ورسوم بعض الخدمات التي تديرها وتقدمها الشركات الأجنبية وتنفذها وتتحكم بها العمالة الوافدة.
لقد حان الوقت لفرض نسب البحرنة واضحة ومجزية على جميع القطاعات الخدمية والانتاجية بشكل الزامي، من خلال إعادة النظر في القوانين والتنظيمات المعنية التي حذفت هذه الاشتراطات من قوانين العمل، حتى يتمكن المواطنون من استعادة حقوقهم وفرصهم في الحصول على الوظائف المناسبة التي ستمكنهم من الاستقرار وفتح أسر جديدة تساهم في الحفاظ على الهوية الوطنية، وتحفظ البلد من التحول الى ما يشبه بيوت إيجار يسكن فيها المواطنون دون أن يتملكوها أو يتمكنوا من التوسع فيها وتحفظ أمن واستقرار الوطن أمام التحديات المحيطة بنا! وللحديث صلة،