بقلم محمد حسن العرادي - البحرين
في العقدين الماضيين زادت وتيرة الخصخصة حتى أصبحت هاجساً يطرق أبواب كافة الخدمات التي يحتاجها المواطن في البحرين، لكن اللافت في الأمر أن معادلة طردية قد نشأت بين تدني هذه الخدمات وارتفاع أسعارها، فكلما تم تحويل المزيد من القطاعات الخدمية إلى رعاية القطاع الخاص كلما انخفض مستوى ادائها عما كان عليه تحت مسئولية الحكومة.
ويبدو أن الدعايات الكثيرة والترويج الهائل بشتى الطرق لتجميل وجه الخصخصة القبيح لم تنجح في اقناع أي من المواطنين بجدوى هذه المشاريع التي صارت تستفز الجميع بشكل بشع، وتستنزفهم بشكل مريع، الأمر الذي حول العديد منا إلى أشبه بالخدم والعبيد الجدد لدى شركات الخصخصة التي صارت تمتص دمائنا وشبابنا ولا تترك لنا خيار للعيش الكريم، ومعها يضطر المواطنون للمناشدات والاستعانة بالجمعيات الخيرية واهل الخير لتغطية نفقات علاجاتهم وفواتيرهم وحتى مأكلهم ومشربهم.
ولم يعد سراً أن معظم الإيرادات التي يستميت المواطن البحريني في تحقيقها من خلال الالتزام بأكثر من دوام رسمي وجزئي، صارت تذهب هدراً على شكل ضرائب ورسوم خدمات لما كانت تقدمه الدولة كخدمات مجتمعية مجاناً في سنوات سابقة قبل انتشار جائحة الخصخصة التي لم يشف منها اي مجتمع ابتلي بها، خاصة بعد أن تدنى مستوى الكثير من الخدمات الرسمية بفعل فاعل، ربما بهدف الدفع بالمواطنين الى التحول للخدمات الخاصة التي تقدمها شركات الخصخصة الشرسة المتلهفة لسلب ما نجمعه من مدخرات ليوم أكثر سواداً من الأيام التي نعيشها.
قبل أعوام كانت خدمات الطبابة والصحة بكافة مراحلها وجودتها تقدم مجاناً للمواطنين، الذين كانوا يحظون بالأولوية والمتابعة المتميزة على مستوى المراكز الصحية والمستشفى المركزي، ومع ارتفاع عدد الوافدين إلى أكثر من 56% من السكان وتزاحمهم على الخدمات الحكومية، تم دفع المواطنين إلى البحث عن الخدمات الصحية البديلة في المستشفيات الخاصة التي تتعامل بروح السلب والنهب مع المواطن المضطر للجوء إليها ويخشى وهذا ليس ببعيد، أن بعض المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة صارت تقدم تسعيرتين الأغلى للمواطنين والارخص للوافدين.
ومن اللافت أن أغلب المستشفيات والمراكز الطبية والخدمات الصحية المساندة والرديفة العاملة في القطاع الخاص مملوكة لشركات واستثمارات أجنبية، وهي بالأساس تعتمد على العمالة الوافدة ايضاً بسبب انتفاء أولوية البحرنة، حيث انقلبت الصورة فاصبح الوافدون يتعالجون مجاناً في المستشفيات الحكومية الرسمية على أيدي الأطباء البحرينيين، بينما المواطنين يتعالجون بأسعار خيالية على ايدي العمالة الوافدة المسيطرة على المستشفيات والعيادات والمراكز الصحية الخاصة ، أي أن ميزانيات الصحة الرسمية صار يستهلكها الوافدين، وميزانيات الطبابة الخاصة التي يبذلها المواطنين صارت تذهب لجيوب الوافدين ايضاً، وفي الحالتين يبقى المواطن هو المتضرر من هذه المزاحمة، خاصة وأن إيرادات وارباح هذه المستشفيات والعيادات المراكز الصحية تجد طريقها إلى خارج البلاد فورًا على شكل تحويلات مالية كبيرة.
ذلك يعني بأن البحرين تخسر في الحالتين، فخدماتنا المجانية تذهب للأجانب، وحاجتنا للطبابة والعلاج ندفع اثمانها للأجانب أيضاً، حتى أصبحنا اغراباً في مستشفياتنا، فضلا أن عدداً من المستشفيات الرسمية الحكومية تعج وتضج بالعمالة الوافدة من مختلف الجنسيات، حتى أنك تتمنى أن ترى الطبيب البحريني الذي أصبح عملة نادرة في بعض المستشفيات الرسمية الكبيرة واسئلوا أهل المحرق إن كنتم لا تعلمون.
وما ينطبق على الخدمات الصحية ينطبق على التعليم بجميع مراحله بدءاً من الحضانات ورياض الأطفال مروراً بالتعليم الابتدائي والاعدادي والثانوي وصولاً الى التعليم الجامعي، فالمدارس الحكومية صارت مليئة بأبناء الجاليات العربية والأجنبية الوافدة، في حين أن الكثير من المواطنين صاروا يرصدون ويخصصون مبالغ كبيرة جداً تستنزف مواردهم المالية لضمان التعليم المناسب لأبنائهم، وبكلفة عالية جداً، لقد أصبح قطاع التعليم يسير على ذات المنوال الذي سلكته الخدمات الصحية، فالوافدين يتعلمون مجاناً على أيدي مدرسين بحرينيين، وأبناء المواطنين يتعلمون في مدارس خاصة على أيدي مدرسين أجانب، أما الأموال وأرباح استثمارات التعليم فهي بدون شك تجد طريقها لدعم اقتصاديات الدول الأجنبية اكثر مما تدعم اقتصادنا الوطني.
لقد أصبح التعليم الجامعي باباً واسعاً لهجرة الأموال من البحرين بدون عودة، خاصة مع التكدس الكبير الذي تشهده جامعة البحرين، وقد ادى ذلك إلى افتتاح العديد من الجامعات الأجنبية التي صارت فروعها تنتشر في مختلف مناطق المملكة، لتكون بديلاً ورديفاً مكلفاً للتعليم الجامعي الذي كان متاح مجاناً للمواطنين، عندما كان المواطنين يشكلون النسبة الأكبر من السكان، ودون شك فإن الفضل الأول والأخير لهذا الهدر يعود لسياسات الخصخصة وفتح سوق العمل بقرارات عشوائية غير مدروسة جيداً جلبت للبلاد والمواطنين مشكلات اقتصادية ومعيشية واجتماعية كبيرة.
وفي محاولة من المواطنين لاصلاح شئونهم يقومون بدعم ومساندة أبنائهم وبناتهم وحثهم على التفوق والتحصيل العلمي من أجل تحسين مستوى معيشتهم والبحث لهم عن وظائف مناسبة، لكن المصيبة الأكبر تتجلى أمامهم في أبشع صورها حين يعودون بشهاداتهم وينظمون إلى قوافل العاطلين، فتتضاعف المصائب وتزداد المشاكل وتتراكم الديون التي صارت تقود العديد من الأسر الى الإفلاس وربما التسول أو اللجوء إلى طلب العون والمساعدة من الجمعيات الخيرية وأيادي المحسنين، بينما أبنائهم الذين بنوا عليهم الكثير من الآمال لا يزالون يعانون من البطالة والانتظار على قارعة الطريق بسبب مزاحمة العمالة الوافدة، هذه ليست مبالغات ولا وسيلة لاستدرار العطف والشفقة بل هي مطالبة بأحقية المواطن بالعيش بكرامة في وطنه.
لقد حان الوقت للتقدم ببعض المقترحات التي يمكنها خلق مشاريع موازية تخفف من تغول النظرية النيو ليبرالية التي يبدو أنها تمكنت من فرض رؤيتها بشكل سافر يهدد مسار خطط التنمية المستدامة ويوسع دائرة الفقر والعوز في المجتمع البحريني، بل ويهدم كل ما تبقى من الطبقة الوسطى التي أصبحت تتآكل يوما اثر يوم، حتى غدى معظم أفرادها وأسرها يعيشون في حيرة من أمرهم ولا يعرفون كيف ستكون حياتهم ومستقبل أبنائهم غداً، مما أدى إلى انقلاب حياة العديد من المواطنين البحرينيين وتكدر معيشتهم التي تراجعت من حالة الاكتفاء والادخار إلى حالة الاقتراض مع تدهور اوضاعهم المعيشية، وإذا كان الجميع يعرف بأن الطبقة الوسطى كانت وما زالت هي صمام الأمان والتوازن المجتمعي، فإننا امام مشهد درامي كئيب يوشك أن يتحول إلى تراجيدية سوداء، ولا بد أن تبذل الدولة ومؤسسات المجتمع الرسمية والأهلية المزيد من الجهود للحفاظ على هذه الطبقة باعتبارها صمام امن وامان المجتمع، وتعالج اختلالاتها وتعمل على مداراتها وحمايتها من التفكك والذوبان، وفي سبيل ذلك لابد من اتخاذ الخطوات التالية:
1- العمل على اعادة التوازن السكاني في المجتمع البحريني بحيث تعود الأغلبية للمواطنين، من خلال تشجيع الاسر على الانجاب ودعم تكوين الأسر الجديدة عبر تخفيض سن الزواج ومعالجة ارتفاع المهور وقضايا التفكك الاسري.
2- وضع الخطط الملزمة لزيادة معدلات البحرنة في مختلف القطاعات الانشائية والصناعية والسياحية والخدمية، حتى يتمكن الشباب البحريني من ضمان وظيفة مناسبة توفر له إنشاء أسرة مستقرة وناجحة ذات مستوى معيشي مناسب.
3- حصر عدد من المهن والوظائف والقطاعات التجارية والاستثمارية على المواطنين فقط (الاحلال)، حتى تتمكن الدولة من ضمان امنها المجتمعي، ومن أجل أن لا نكون تحت رحمة العمالة الوافدة في هذه القطاعات، يتحكمون من خلالها في حياتنا ومستقبلنا، مع توفير الحوافز والمكافئات اللازمة لتعزيز الاستقرار الوظيفي للمواطنين في هذه القطاعات وخاصة الخدمية منها.
4- تشديد اجراءات دخول واستقرار العمالة الوافدة، ووضع القوانين الملزمة لتدويرها بشكل مستمر حتى لا تتحصل على حقوق الإقامة الدائمة، وتنتقل إلى طلب التوطين الذي سيتحول إلى أعباء مالية واقتصادية واجتماعية ذات مردود سلبي على المجتمع البحريني.
5- البدء بأطلاق برامج احلال واستبدال تفضي الى معالجة الاختلال الوظيفي والاقتصادي في المجتمع وخاصة في القطاعات الصناعية والخدماتية من خلال توطين وبحرنة هذه الوظائف وإعداد وتدريب أبناء الوطن لمسكها وادارتها والعمل بها لضمان الأمن المجتمعي بعيداً عن سيطرة الجاليات الوافدة .
6- العمل على توفير الخدمات الاسكانية اللائقة للمواطنين والتي تدفع بهم إلى الاستقرار والشعور بالأمان المجتمعي، بما يدفعهم إلى المزيد من المشاركة في التكافل المجتمعي وتعزيز الروابط الاجتماعية، وانشاء أسر مستقرة وسعيدة بدل الأسر المتوترة والمفككة بسبب الضغوطات الاقتصادية والحياتية السائدة.
7- السماح للجمعيات الخيرية والأهلية بالعمل على إنشاء مؤسسات وأطر خدماتية قادرة على تخليق الوظائف للمواطنين، وتأمين مصادر بديلة بأسعار ملائمة عوضاً عن الخدمات التي تسيطر عليها الجاليات الأجنبية وخاصة في المجال الصحي والتعليمي والصناعي والخدمي بشكل عام.
8- السماح بتحول الجمعيات الأهلية والخيرية الى مؤسسات مجتمعية غير ربحية قادرة على تمويل نفسها بنفسها من خلال المشاريع المنتجة، الأمر الذي سيساهم في إطلاق القطاع الاهلي الثالث القادر على خلق توازن مجتمعي يعزز من دور المواطن ويدعم التنمية المستدامة.
9- اعادة النظر في كافة القوانين والتشريعات التي تمنح الأولوية للعمالة الوافدة ورأس المال الأجنبي، وتحويلها لصالح المواطن، الأمر الذي سيعزز من التماسك المجتمعي ويرفد برامج الدولة في كافة القطاعات.
10- ضبط عملية التجنيس والتشدد في منح الجنسية البحرينية لطالبيها ضمن شروط تراعي صغر مساحة البحرين وقلة مواردها المالية والاقتصادية، والتعويض عن التجنيس بتشجيع الانجاب وتربية جيل بحريني أكثر اخلاصا وولاء للوطن، لا يعيش حالة من الاغتراب وازدواجية الانتماء بين وطنه الأصلي ووطنه البديل الذي يعتبره كثير من المجنسين وطناً مؤقتاً حتى ان كثيراً منهم يعودون للسكن في وطنهم الام بعد التقاعد مباشرة وتصبح البحرين مصدر رزق لهم، فضلاً عن أن اغلبهم لا يزالون يحتفظون بجنسياتهم الاصلية واملاكهم ومشاريعهم ولا يقبلون حتى دفن امواتهم الا في وطنهم الأم .
أننا ندعو إلى تعزيز الوحدة الوطنية، وتنمية روح الانتماء الوطني والارتباط بالبحرين وطناً نهائياً لجميع أبناءه، المطالبين بمبادلته المحبة والاخلاص، في مقابل ما يمنحهم من حنان وأمان وشعور بالعزة والكرامة والحياة السعيدة والمستقبل الذي ينتظرون والتنمية المجتمعية التي يحتاجون، بعيداً عن المزاحمات التي تشكلها العمالة الوافدة التي تتعامل مع البلاد باعتبارها بقرة حلوباً فاذا جف ضرعها غادرت إلى مراعي بديلة، والله من وراء القصد.