بقلم: رضي الموسوي
في العاشر من سبتمبر 2001، صدر ترخيص جمعية العمل الوطني الديمقراطي، كأول تنظيم سياسي مرخّص له رسميا في البحرين ودول مجلس التعاون الخليجي وفق قانون الجمعيات الأهلية، مع تجميد المادة (18) المتعلقة بعدم التدخل في الشؤون السياسية، لتدخل بلادنا حقبة جديدة من العمل السياسي العلني لتكرّ سبحة تأسيس الجمعيات السياسية، بعد أن كانت المعارضة تعمل تحت الأرض وفي المنافي. جاء ذلك إثر الانفراج الأمني والسياسي الذي ساد البلاد بعد أن اتخذ الملك قرارا شجاعا بإلغاء قانون تدابير أمن الدولة ومحكمة أمن الدولة السيئة الصيت التي دمرت حياة ومستقبل المئات من المناضلين السياسيين الذين تم وضع المقصلة فوق أعناقهم وخضعت البلاد تحت وطأة هذا القانون لأكثر من ربع قرن من الزمن، دمرت فيه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث كانت المحاكمة تتم على النيّات وتستند الاتهامات على الشكوك وليس على الوقائع، وبعد أن أصدر جلالة الملك قرار العفو الشامل الذي بموجبه تم الافراج عن جميع المعتقلين السياسيين وعودة جميع المنفيين والذين اجبرتهم الظروف على البقاء خارج الوطن، وبعد التصويت على ميثاق العمل الوطني بنسبة صحيحة وغير مزورة وغير مسبوقة على المستوى العربي بحصول الموافقة عليه بنسبة 98.4 بالمئة من إجمالي الذين صوتوا على الميثاق ونسبتهم تفوق الـ70 بالمئة.
عاشت البحرين مع أجواء العرس الديمقراطي، شهر عسل مدته عام كامل امتزجت فيه الأهازيج بهتافات الفرح التي توجت بمحاولة أهالي سترة رفع سيارة جلالة الملك على الأكتاف لولا تدخل الأمن حفاظا على أرواح الجميع. كان الستراويون يعبرون عن المزاج الشعبي البحريني بسجيته التي تسامت على الآلام والجراح الغائرة وقررت السير في درب الانفراج الجديد، فلم يتردد الجمع المتجمهر خارج المجلس الذي استضاف جلالة الملك في سترة وكانت قصائد مديح الوضع الجديد تصدح من أفواه الشعراء الذين نظموا قصائدهم بهذه المناسبة ليلقوها في ذلك اليوم، إلا أن جلالة الملك وهو يسمع الهتافات الحماسية في الخارج، أطلّ على الجمع فزاد الهتاف حماسا، وحين ركب العاهل سيارته همّ الجميع برفعها والسير بها..وكانوا قادرين على ذلك، لولا تدخل الأمن.
هكذا كانت الأجواء الشعبية التي عمّت البلاد من أقصاها إلى أدناها ودامت لعدة أشهر كان الأهالي فيها يستقبلون أحبتهم المنفيين والمبعدين الذين أجبرتهم الظروف على العيش خارج البلاد لعقود طويلة رسمت تجاعيدها على أجسادهم، فطافت الفرحة في كل الأرجاء أملًا في طي صفحة جديدة، قدم فيها الجميع، حينها، تنازلات لإخراج البلد من عنق الزجاجة الذي انحشرت فيه منذ حراك التسعينات الذي تفجر إثر العريضة الشعبية نهاية عام 1994 وما تلاها من نزيف دموي سقط فيه عشرات الشهداء الذين قتلوا خارج القانون، فضلا عن آلاف السجناء والمعتقلين الذي كانت محكمة أمن الدولة وقانون أمن الدولة يفرمهم فرمًا بلا رحمة.
كان اللقاءان اللذان تمّا بين جلالة الملك وعبدالرحمن النعيمي، وبين سمو رئيس الوزراء الراحل الأمير خليفة بن سلمان والنعيمي، لقاءين فاصلين وحاسمين في الانتقال من العمل السري إلى العمل العلني، وطبيعة العمل السياسي الذي ستسير عليه البلاد في الحقبة الجديدة..كانت صيغة "الجمعيات السياسية" وليس "العمل الحزبي"، مراعاة للوضع الاقليمي، هي الصيغة التي تم التفاهم عليها، الأمر الذي قاد الراحل عبدالرحمن النعيمي إلى إطلاق التصريح المدوِّي بين تيار الشعبية وأنصارها والذي أعلن فيه "قررنا تجميد الشعبية ووضعها في الثلاجة". هذا التصريح تسبّب في إحداث صداع عاصف بين صفوف أبناء التيار وجعل المتصيّدين في الماء العكر يحاولون ضرب أسفين، لكن في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح..وهكذا كان.
نتذكر في العاشر من سبتمبر تلك الآمال التي بنيناها معا، ونحن نجتمع في منزل المناضل الراحل عبدالرحمن النعيمي بمنطقة عراد في الثالث عشر من أبريل 2001، بحضور 43 شخصية وطنية تمثل قيادات وتيارات الجبهة الشعبية في البحرين وجبهة التحرير الوطني البحرانية وحزب البعث العربي الاشتراكي وشخصيات وطنية مستقلة، أي أن التيار الوطني الديمقراطي اجتمع في ذلك اليوم وناقش أهم مرحلة حسّاسة في تاريخ الوطن لو ارتقى التفكير وتسامى على إرث الخلافات الثانوية. لو حصل ذلك لما كان سوى تنظيم واحد للوطنيين الديمقراطيين، إلا أن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه..تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"، وفعلا حصل ذلك بتأسيس جمعيات سياسية محسوبة على اليسار الوطني والقومي، وهذا حق مطلق لأي جماعة سياسية أن تشكل حالتها السياسية وجمعيتها التي ترتئيها، لكنها حالة لم تقد إلى الوحدة والتنسيق المطلوب بين قوى هذا التيار.
تزامنًا مع حالة الانفراج الأمني والسياسي، تأسست بقية الجمعيات السياسية من مختلف الانتماءات والتوجهات السياسية معلنة عن بدء مرحلة نوعية مليئة بالطموح الكبير في السير على طريق الدول التي تسير على نهج الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وفق الشرعية الدولية، وتطبيق العدالة الاجتماعية بردم الهوة بين الفئات الاجتماعية المكونة للمجتمع البحريني. لم يدم هذا الحلم سوى سنة واحدة، حتى جاء الدستور الجديد في 14 فبراير 2002، لتدخل البلاد في حقبة جديدة من الوضع السياسي الملتبس.