بقلم: رضي الموسوي
- خضّة دستور 2002
في الرابع عشر من فبراير 2002، صدر الدستور الجديد، الذي لم يكن تعديلا على دستور 1973 وفق ما نص عليه ميثاق العمل الوطني وتوضيحات القيادة ورئيس اللجنة العليا لميثاق العمل الوطني، بل جاء دستورًا جديدًا، فاجأ الشارع السياسي بمختلف تلاوينه وخصوصا الجمعيات السياسية المعارضة، وذلك خلافًا لما كان مطلوبًا ومتعهدًا به؛ فقد كان تصريح رئيس اللجنة العليا للميثاق المرحوم الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة قبل أيام من التصويت على الميثاق يؤكد على أن "المجلس المنتخب للتشريع والمجلس المعين للاستشارة"، وهذا التوضيح كان أحد شروط المعارضة للتصويت بنعم للميثاق، حيث كان ملتبسًا والمطلوب إيضاح الغموض في نص الميثاق المتعلق بدور وصلاحيات السلطة التشريعية والعلاقة بين مجلسي الشورى والنواب، وقد أوضح جلالة الملك ذلك وولي العهد أيضا.
إلا أن الجمعيات السياسية كان لها رأيها الذي أكدت عليه مرارًا، وشدّدت فيه بأن "الجمعيات السياسية أجمعت على أن التعديلات الدستورية تجاوزت ما نص عليه ميثاق العمل الوطني في استشراف المستقبل، وإنها بالإضافة للعديد من المواد التي أضيفت أو عُدِّلت حسب مرئيات الحكم، شكّلت تراجعاً كبيراً عن دستور 1973، مما أثّر على المسيرة الإصلاحية التي يقودها صاحب العظمة، ومسّ بمبدأ الفصل بين السلطات، وحق ممثلي الشعب المنتخبين في التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية، وبالتالي فإن دستور 2002 ليس هو الدستور الذي يمثل العقد بين الحكم والشعب". كما أكدت فيه "حرصها على الوحدة الوطنية وتمسّكها ونبذها كل الممارسات الطائفية والتمييزية، والوقوف بلا تردد إلى جانب المزيد من الخطوات لتحقيق المشروع الاصلاحي للملك الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة"، حسب البيان الذي أصدرته تلك الجمعيات في 23 يوليو 2002 .
يضاف إلى خضَّة الدستور الجديد، حزمة القوانين بمراسيم التي صدرت في 23 أكتوبر 2002، قبل يوم واحد من الانتخابات النيابية. ومن تلك القوانين مرسوم بقانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر وقانون السلطة القضائية وقانون الاجراءات الجنائية، الأمر الذي عقّد المشهد بعد مرور أكثر من عام ونصف من بدء مشروع الاصلاح، وبدأت التوجّسات بين أطراف العمل السياسي تتشكل ببطء وتبني جدارًا بين السلطة والجمعيات السياسية التي وجدت في هذه التطورات الدراماتيكية غير المتوقعة حالة جديدة في الحياة السياسية البحرينية.
في تلك اللحظة التاريخية، كان المطلوب أن تتخذ السلطة قرارًا واضحًا في تمدين المجتمع وتطويره والسعي به نحو مجتمع الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. دولة المواطنة..الدولة المدنية الديمقراطية، إلا أن ذلك لم يحدث، بل حصل ما كنا نتخوف منه، فقد أحدث ذلك شرخًا جديدًا قررت على إثره أربع جمعيات سياسية مقاطعة الانتخابات النيابية التي انتظمت في 24 أكتوبر 2002، رغم أنها شاركت في الانتخابات البلدية التي عقدت في مايو 2002.
توجّس الراحل المناضل عبدالرحمن النعيمي من المعطيات التي كان يتم عجنها، فكتب في 5 أكتوبر 2002: "نحن نطمح كقوى سياسية في البحرين، أن نحقق مثل هذه الآلية (يقصد آلية تنظيم الصراع السياسي والطبقي-الاجتماعي في المجتمع وتجعله علنيًا سلميًا) التي تتعدل فيها وضعية المجتمع مع كل إشكالية يواجهها، وبالتالي نكون مطمئنين على سلامة مستقبل أوضاعنا السياسية، بحيث لا تصادر حقوقنا بالتخويف من إمكانية عودة القمع والإرهاب وقانون تدابير أمن الدولة وما شابه ذلك من إرهاب معنوي للقوى السياسية أو المجتمعية المتصارعة، مما قد يدفع القوى الحاكمة أو المحكومة إلى أساليب العمل السري للاستعانة بها خوفًا من الطرف الآخر، فتلجأ إلى الكتمان وإخفاء الحقائق عن بعضها البعض خوفًا من افتضاح أمرها أو الضرر الذي يلحق بها من جرّاء العلنية. ولذلك كانت القوى السياسية منذ بداية الإنفتاح السياسي مصرة على العلنية والشفافية في عملها، لأنها حريصة على إقامة أوثق العلاقات مع الناس من جهة، وعلى طمأنة السلطة وأجهزة أمنها من جهة ثانية، وحريصة على فتح صفحة جديدة في العلاقة بينها وبين الحكم. ولم تكن هذه القوى الواثقة من نفسها خائفة من اختراقات أجهزة الأمن لها في كافة المواقع، فالعمل العلني يخلق من الحصانة والقوة للقوى السياسية ما يضعف أي اختراقات ويجعلها ضعيفة التاثير في مسيرة العمل السياسي".
نزعة العمل السياسي العلني التي سادت أوساط قادة العمل السياسي بداية الانفتاح وحرصها على مغادرة العمل السري واستبداله بالشفافية والإفصاح والمصارحة، قابلها في الجانب الرسمي صمت وكتمان لما كان قادمًا من أيام، وخصوصا فيما يتعلق بلجنة تعديل الدستور التي لم تفصح عما يدور في داخلها منذ تشكيلها بُعيد التصويت على الميثاق، حتى صدور الدستور بعد سنة من تشكيلها لتفاجأ القوى السياسية والمجتمعية بما احتوى عليه هذا الدستور من مواد غير متوافق عليها، فضلا عن القوانين التي صدرت قبيل الانتخابات الأولى والمشار إليها أعلاه، وتم تعزيزها بتصريحات من طراز "الانشغال والاشتغال بالسياسة" التي اطلقها الوزير محمد المطوع، وقصد بها وضع قيود على التحول الديمقراطي المنشود. تصريحات أطلقت لتزيد من التوجّسات لدى الشارع السياسي.
هذه الأرضية هيّأت الأجواء لإضعاف فاعلية وهج الانفراج الأمني والسياسي والحد من تأثيراته الإيجابية للولوج في طريق الحريات العامة والديمقراطية الذي تسير عليه الدول للخروج من أزماتها السياسية الاقتصادية والاجتماعية والشروع في التنمية المستدامة التي تقود إلى الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي وتحقيق الخطط والبرامج الاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها رفع مستوى معيشة المواطن وتحقيق طموحاته. لم نصل إلى هذه الأمكنة، بل انخفض سقف الحريات، وبدت السلطة التشريعية متواضعة في أدائها، والأوضاع السياسية تتجه لمزيد من التعقيد..
ولهذا وقفة قادمة.