بقلم: رضي الموسوي
كان البحرينيون يوم الثامن من أبريل على موعد مع دموع الفرح التي سالت على وجناتهم وهم يستقبلون أبناءهم المساجين يخرجون جماعات من الزنازين المعتمة وقد تم ترتيب الحافلات الصفراء لتقلهم من سجن جو المركزي إلى مراكز شرطة المحافظات التي ينتمون لها.
لم يكن عاديا ذلك الصباح. بدأ بمرسوم ملكي يقضي بالإفراج عن 1584 سجينا، فانتشر الخبر كالنار في الهشيم لتبدأ التكهنات المتصلة بماهية الذين سيتم الإفراج عنهم، وعدد السجناء السياسيين منهم، حيث يخلو القاموس الرسمي من هذه التسمية التي يطلقها العالم كله على هذه الفئة من السجناء. فهؤلاء سجناء تم محاكمتهم على خلفية الأزمة السياسية التي عصفت ببلادنا البحرين في الرابع عشر من فبراير 2011، ولا تزال تبعاتها وآثارها شاخصة للعيان حتى الوقت الراهن.
**
قبل أيام من صدور مرسوم العفو الملكي بمناسبة اليوبيل الفضي لتسلم جلالة الملك مقاليد الحكم، جرت مياه كثيرة تحت جسر أوضاع السجناء السياسيين، فقد سقط حسين الرمرام شهيدا في سجن جو، ما قاد إلى احتجاجات داخل عنابر السجن كانت نارها موقدة أصلا. شيّع الآلاف في قرية الدراز الشهيد حسين الرمرام إلى مثواه الأخير، في صورة تذكر بأجواء 2011، وكان الوضع محتقنا وبحاجة إلى تنفيس بخطوة نوعية تطفئ نار الغضب التي اعتملت في صدور الشباب داخل السجن وخارجه. قاد هذا إلى تحرك الجهات الرسمية ومنها المؤسسة الوطنية لحقوق الانسان، فتشكلت وفود زارت السجن والتقت ببعض ممثلي السجناء للوقوف على مطالبهم، التي كان الرئيسي فيها الإفراج عن السجناء السياسيين وخصوصا أولئك الذين يعانون من أمراض مزمنة وكبار السن واليافعين. بعدها بأيام أصدر أحد الذين شاركوا في لقاء السجناء تصريحا أكد فيه أن مئات السجناء سيتم الإفراج عنهم، لكن الكثير من المراقبين لم يأخذوا هذا التصريح على محمل الجد، كما لم يأخذوا جديا مطالبة 15 نائبا بالإفراج عن بعض السجناء.
ولم يفوت الذباب الإلكتروني والموتورين الفرصة وتلفيق ونشر بيانات مضروبة تمسّ وتشكك في ولاء وانتماء المعتقلين لهذا البلد وليس لغيرها، وراحوا بقذفونهم بنفس التهم التي سادت أثناء الحراك الشعبي.
وبينما الناس في ترقب لما ستشهده الساحة، صدر المرسوم الملكي الذي جاء بالقول الفصل، فتوالت المعطيات وسُرِبَت أسماء أغلب السجناء من خلال إحدى الصحف المحلية، فبدأ الأهالي ينتشون بالأخبار التي تتسلل من عتمة الزنزانة وترتسم الفرحة على وجوههم وتتسع ابتساماتهم كلما سمعوا أن أحد المعتقلين قد تم الإفراج عنه.. وهكذا تضاعف عدد الأسماء والابتسامات والزغاريد تشق الافاق معانقة السماء.
**
في هذه الأثناء انتشرت إشاعة تفيد بأن وجود اسم الشيخ علي سلمان الأمين العام لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية في قائمة المفرج عنهم. هذا خبر فارق بلا شك، قلب كل التحليلات. زاد الإرباك رسالة صوتية كاذبة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي يؤكد قائلها أنه رأى الشيخ علي خارجا من السجن..هكذا!!
كثرت الاتصالات بعائلة الشيخ علي للدرجة التي قادها إلى إصدار توضيحا ينفي وجوده في قائمة المفرج عنهم. ويبدو أن الإشاعات وصلت إلى أبي مجتبى ومن معه في محبسهم، فهاتف عائلته ليؤكد أن العنبر الذي يتواجد فيه تم الإفراج فقط عن الشيخ حسن عيسى الذي خرج فعلا من السجن وأعلن أنه سيستقبل في المساء المهنئين بالإفراج عنه في مأتم المنتظر بمنطقة الخارجية في جزيرة سترة.
شددنا الرحال لتلك الجزيرة الأبية، سترة. كان الطابور طويلا جدا خارج المأتم، واستغرقنا قرابة الساعة للوصول إليه. أثناء وقوفنا في الطابور، جاء صوت أحد المنظمين عبر مكبرات الصوت ليزف بشرى جديدة: اسم جديد يتم الافراج عنه وهو في طريقه للمأتم. كانت الأسماء الجديدة تعلن بين الفينة والأخرى. هنأنا الشيخ بالإفراج وكان بجانبه بعض زملاء السجن.
في المأتم المجاور، مأتم دار الحسين كانت مكبرات الصوت تصدح بالاناشيد. قيل لنا أن هناك أربعة من المفرج عنهم يستقبلون المهنئين وكان الإعلان متلاحقا عن وصول سجناء جدد تم الافراج عنهم، وعندما سلمنا عليهم كانوا إثنى عشر شابا.
**
كانت عقارب الساعة تسرع نحو منتصف الليل. غادرنا المكان عائدين إلى البيت، بينما تواردت الأنباء سريعا. كان عدد الذين تم إدراجهم في قائمة المفرج عنهم من قرية الدراز لا يصل إلى الثلاثين سجينا من أصل أكثر من مائة سجين هم عدد سجناء القرية. عند المساء قارب العدد الخمسين. فجأة يدب النشاط مجددا..إلى الدراز نتجه. مجموعة جديدة من المفرج عنهم وصلوا إلى مركز شرطة المحافظة الشمالية. كانت الأهازيج تصدح والقاعة تغص ببنات ونساء العائلة، بينما الرجال والشباب والأطفال يقفون في الخارج بانتظار من سيصل. توقفت السيارة وخرج الشباب القادمون من الدوار السابع عشر وترجل منها البدر لتصدح الأرجاء بالزغاريد وبكاء الفرح ودموعه التي انساحت من العيون المترقبة. أخيرا وصل إلى أمه فاحتضنته لدقائق وأغشي عليها فرحا.
**
في الأيام الحالكة من ثمانينات القرن الماضي، أطلق الفنان محمد يوسف الجميري أغنيته الرائعة المعبرة التي يقول في مطلعها:
"فرحة وطوفي في هالبلد
ملينا الأحزان
كم يسوى فرح هالديرة مرة
فرحة وكلٍ بالأمل يبني هالأوطان
مادام الأمل
في زنود سمرة".
كانت البارحة فرحة وطن بخروج مجموعة من أبنائه من العتمة الباهرة، فكيف ستكون عليه فرحته لو أن السجون بُيِضَت، والمنافي أُخلِيّت، والأضرار جُبِرّت.