"أفكر الآن في شرط الحرية وهو إرتباطها بالوجود في علاقة لاتكتمل بدون الآخر، ولعلني الآن لا أُسمي ما أنا فيه حرية، ولكنه استعباد يُقيدني في سلاسل الوحشة والوحدة، وقد أُصبح على قناعة واضحة من أن ما يفيض عن الحاجة يعادل ما يقل عنها".
تلك السلاسل قادت الأديب والشاعر الراحل علي الدميني لكتابة رواية الغيمة الرصاصية،1998 الصادرة عن دار الكنوز الأدبية، بيروت/ لبنان، والمقتطف من الرواية التي قادته إلى إصدار "زمن للسجن، أزمنة للحرية" من نفس الدار. الكتاب الاخير موزع على ثلاثة اقسام: سرديات تشبه اليوميات التي قضاها الراحل وراء القضبان، ومقالات في الواقع المحلي والخليجي والاقليمي، بالاضافة إلى وثائق، والثالث قصائد من السجن التي تغنى فيها الدميني شعرا في نهاية رصده لمرحلة مر بها بتجليات عاشق لم تنل منه تلك العتمة، فصدح في قصيدة "للأيام الخضراء":
"أهبط من هلع التحقيق، إلى قاع الزنزانة
أتلمّس قلبي هل لازال مكانه!
افتح صدري لهواء الشارع، يأتيني من ثقبٍ في الباب
يفجؤني وجهٌ في الحائط، مملوءٌ بالأحباب
يسترخي قلبي..
تعرق أطرافي..
في الزنزانة اتمترس خلف الشعر، وخلف الشعراء
أصرخ بالأموات وبالأحياء
أني سأقاوم موت البرد وما اقترفت اقلام الظلمة من اخطاء".
قاوم الدميني قساوة السجن ورطوبة الزنزانة والوحدة القاتلة فيها، وراح ينشد فيها:
"أقسمت بالله لا خوفا ولا كذبا
يا سادن السجن أن السجن قد عَذُبا
صمتٌ ونومٌ وأحلامٌ منزهةٌ
من رعشة الروح أو ما زادنا طربا
فأهنأ بنا خير محكومين في قفصٍ
لا نسأل الجند إلا الماء والكُتُبا".
لكن الخامس والعشرين من أبريل 2022 كان يوما كئيبا مغبرا من صباحه، وحتى يكتمل الحزن وتلك الكآبة، جاء الخبر الحزين الذي تطاير في وسائل التواصل الاجتماعي: رحل علي الدميني عن عمر يناهز الـ74 عاما بعد صراعه مع المرض العضال. وقع الخبر كالصاعقة على الكثيرين الذين يعرفون الدميني لكنهم لا يعرفون مدى انتشار السرطان في الجسد النحيل.
في الثاني من ابريل/نيسان الجاري 2022، بعثتُ برسالة نصية إلى الصديق الشاعر والاديب الراحل علي الدميني (ابو عادل)، عبارة عن خارطة فلسطين كاملة ومرفقة بكلمات أرسلتها لكل الأصدقاء، وعلي الدميني في مقدمهم، بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك. كتبتُ في التهنئة:
"الصلاة أجمل وأبهى في الأقصى وقد تكسرت حِراب الإحتلال وكُنِسَ التطبيع". رد في اليوم التالي بشارة النصر مكررة مرتين. تأملت تلك الشارة فأنتابني بعض من حزنٍ غريب الأطوار. شعرت بأن الرجل ليس على مايرام، وأن صراعه محتدم مع المرض الخبيث الذي يضرب من حيث لا يحتسب المرء.
تعرفتُ على الراحل علي الدميني في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، عندما كنت وأصدقاء آخرين في بداية مشروع "ثقافي" هو مكتبة كنوز المعرفة في البحرين، وهي اشبه بالذراع الأيمن إلى دار الكنوز الأدبية في بيروت التي كان يديرها والمسؤول الأول عنها المناضل الراحل عبدالرحمن النعيمي. كان الدميني يحمل ملفا مثقلا بالكثير من الهموم والأوراق. هذه "رواية الغيمة الرصاصية"، قالها وأضاف وهو يحدق من خارج نظارته: "نريد اصدارها بأسرع وقت ممكن، ينتظرنا الكثير من العمل..يالله نلحق". لك ذلك. أجبته. كانت اللقاءات مع الراحل شبه اسبوعية. فقد كان الرجل يشتغل بشكل متواز على الكثير من القضايا، فهو الذي كان الناس والوطن شغله الشاغل، وقد دفع اثمانا باهضة نتيجة مواقفه الوطنية والقومية والتقدمية المنطلقة من حداثة أصيلة تُبحر في جوانب الحياة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية ولا تقتصر على الثقافة والادب. صدرت الرواية الوحيدة للدميني "الغيمة الرصاصية.. اطراف من سيرة سهل الجبلي" في حلة جميلة، من القطع المتوسط وتقع في 250 صفحة. كما صدرت له قبل وبعد الرواية العديد من الاصدارات التي نالت اهتماما كبيرا من القراء والادباء المختصين، فخضعت نتاجاته لقراءات ونقد، ومنها رياح المواقع، 1987، بياض الأزمنة، 1993 و1998، بأجنحتها تدق أجراس النافذة، و"نعم..في الزنزانة لحن".
يأبى الراحل إلا أن يكتب من سجنه في 2004 نصا شعريا تضامنا مع الاسير الفلسطيني:
"من نبضك الوطنيّ شعّت هذه الأنوارُ
وتناقلت إضرابك (الامضى) لنا الأخبارُ
وتشرّبت روحي على بعدٍ هوى اشباهها
إن السجين على السجين (اليعربيّ) يغارُ
بخطاك ياشبل (الضفاف) الباسلات و(غزةٍ)
يتوهج التحرير في الاوطان، والاحرارُ".
غادر أبا عادل هذه الدنيا بجسده النحيل المثقل بهموم وطن وناس، لكن روحه ستبقى ترفرف في سمائنا بعطاءات عميقة تليق بتضحيات جمة.
لروح الصديق الراحل الاديب والشاعر علي الدميني الطمأنينة والسلام، ولرفيقة دربه فوزية العيوني وابناءه وبناته واشقاءه ومحبيه جميل الصبر والسلوان،