بقلم: رضي الموسوي
مؤخرا، تداول نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي خبرا عن فعل الزكاة في سنغافورة التي يشكل المسلمون فيها نحو 15 بالمئة من عدد السكان. يفيد الخبر أن الزكاة في هذه الجزيرة التي تقع جنوب شرق آسيا، تبدأ من دراسة حالة الأُسر المستحقة للزكاة من قبل المجلس الإسلامي الذي يقوم بصرف رواتب شهرية ودفع رسوم مدارس أطفال تلك الأُسر، وتعليم الوالدين وتدريبهما على عمل تجاري معين لمدة سنتين ومنحهم رأسمالًا يبدؤون به للمساهمة في إنجاح المشروع. الفرضية أنه بعد سنتين تكون الأمور قد اتضحت وتطور المشروع ليحقق أرباحًا، فتخرج الأُسرة من قائمة المستحقين لتبدأ في تسديد ما صرفه المجلس عليها بأقساط لا تتعدى نسبة الزكاة المفروضة من الأرباح التي تجنيها من تجارتها.
بهذه الآلية أصبح للمجلس الإسلامي في سنغافورة فائض من نفقات الزكاة. نشير إلى أن هذا المجلس والتزاما بالشفافية والإفصاح يعلن عن تقاريره المالية المدققة على الملأ ليطّلع عليها الجميع بمن فيهم غير المسلمين الذين يشكّلون الأكثرية في هذه الدولة العلمانية، ويضع التقارير على موقعه الإلكتروني ليراها الكون. هذه هي سنغافورة التي تعتبر رابع أهم مركز مالي في العالم وتلعب دورًا مهمًا في الاقتصاد العالمي، ويعد مرفؤها خامس مرفأ في العالم من ناحية النشاط.
لكن، عندما قرر برلمان الاتحاد الماليزي طرد سنغافورة من الاتحاد وانفصالها وإعلان استقلالها في أغسطس عام 1965، رفع رئيس وزرائها آنذاك لي كوان يو شعار البناء، وبدأ بالتعليم والاستثمار في الإنسان، وبعد خمسة عشر عاما تغلّبت سنغافورة على البطالة التي تراجعت من 12 بالمئة عشية الاستقلال إلى 3 بالمائة في عام 1980، لتبدأ في أخذ مكانا لها تحت الشمس وبين الدول المحترمة التي يعمل مسؤولوها على خدمة مواطنيهم دون تمييز بين مالاوي وصيني وهندي وآسيوي، لذلك صارت نمرا آسيويا وقُبلةً للاستثمار والعمل المنتج وتصدير السلع ذات القيمة المضافة العالية. سنغافورة ليس بها موارد طبيعية، بما فيها الماء الذي كانت تستورده من ماليزيا، لكنها تغلبت على هذه الأزمة، وأصبحت اليوم ضمن الدول الطليعية في العالم على مستوى الدخل الفردي، وحققت المرتبة الثالثة هذا العام بمعدل دخل فردي سنوي يبلغ نحو134 ألف دولار أمريكي، بعد أيرلندا ( 145 ألف دولار) ولوكسمبورغ (142 ألف دولار)، وتأتي بعدها دولة قطر بدخل فردي سنوي يبلغ 122 ألف دولار، وفق مجلة غلوبال فاينانس في شهر ابريل الماضي.
لم تهبط الثروة على الجزيرة من السماء ولم تنبع من الارض، بل واجهت التحديات وحولتها الى فرص استثمرتها بمسؤولية كبيرة. فقد رفع لي كوان شعار مكافحة الفساد مطبقا القول: "أن السُلّم (الدرج) يُكنس من الأعلى"، فكافحه وبدأ بكبار المسؤولين والمتنفذين، وقد تجلت الإرادة السياسية في محاربة الفساد فتم وضع الخطط والآليات الجادة لمكافحته بالإتكاء على رفض المجتمع للفساد كوسيلة للكسب والعيش. هذه الأرضية قادت سنغافورة لتأسيس "مكتب التحقيقات في ممارسة الفساد" كهيئة مستقلة عن الشرطة، مهمته التحقيق في شبهات الفساد المالي والإداري في القطاعين العام والخاص، وقد تأسس في عام 1952، أي قبل الاستقلال عن بريطانيا عام 1963. لهذه الأسباب تطورت الجزيرة التي تبلغ مساحتها 710 كيلومترات مربعة، أي نفس مساحة البحرين تقريبا، لتصبح على ما هي عليه اليوم من تقدم.
لم تميز سنغافورة بين مواطنيها، إنما عملت على تشييد دولة المواطنة. عشية الانفصال/الاستقلال كان الصينيون يشكلون 75 بالمئة من السكان، وكان بها المالاويون والهنود والأندونيسيون. أرادت سنغافورة بناء وطن حقيقي، فجرّمت التمييز. والحقيقة لم يكن لي كوان ديمقراطيا، بل كان أشبه بالمستبد العادل، وقد بطش أكثر بالشيوعيين، لكنه كان صاحب مشروع إنقاذ لبلاده من الفقر والبطالة والمرض، وكانت على عاتقه مهمّة تتمتع بالأولوية على المستوى الوطني.
وعلى ما تقدم، لايمكن تطبيق زكاة سنغافورة على البلاد العربية والإسلامية. ففي سنغافورة قانون، الجميع تحته. وفي البلاد العربية والإسلامية تعاني القوانين من عوارات كثيرة باعتبار أنها وضعت لتخدم القوى السائدة والفئات المتنفذة أكثر مما هي للمواطن العادي. وإذا وجدت قوانين في هذه البلدان فإنها تتعرض للدعس من تلك الفئات التي لا ترى أن القانون يطبق عليها إلا بالقدر الذي يخدم مصالحها.. وهنا يكمن الفرق.
لذلك كَثُر اللصوص والمتنفعون والمتنفذون في البلاد العربية، وهو الأمر الذي أدى إلى استشراء الفقر والبطالة والتخلف وغياب المشاريع الحقيقية عن هذه البلدان التي لا تعرف ماذا تريد، فتدهور التعليم والصحة والعمل والبُنى التحتية وتفكّكت المجتمعات ولم تعد منسجمة مع بعضها، وزاد عدد الدول العربية الفاشلة والمفككة.
خلاصة القول أن دولة مثل سنغافورة تمكّنت من مكافحة البطالة وطرد الفقر وتحويل الفقراء فيها إلى مقتدرين لأنها تمتلك مشروعًا على مستوى الدولة، وحافظت على المال العام ووضعت الآليات اللازمة لمكافحة الفساد، فجاءت الزكاة الطاردة للفقر فيها ضمن السياق الذي تسير على البلد ومكوّناتها وثرواتها، وليس بالعبث في المال العام وتبذيره على ملذات هنا وهوايات هناك، وتغيير الديمغرافيا وغياب الاستراتيجيات الحقيقية والجدية اللازمة للتنمية المستدامة، الامر الذي تسبب في زيادة نسبة البطالة وتراجع المستوى المعيشي وانزياح فئات كثيرة نحو خط الفقر وتآكل الطبقة الوسطى وزيادة الفروقات الطبقية التي أدت إلى تحكّم أقل من 10 بالمئة من السكان في 90 بالمئة من الثروة، بينما يتنافس أكثر من 90 بالمئة منهم على 10 بالمئة منها.
إنه "السيستم" الذي يدفع ملايين العرب والمسلمين الى مستنقع الفقر والعوز والمرض.