أسباب ثورة الشعوب على الأنظمة الحاكمة واستبدادها غياب الديموقراطية وانعدام حالة الاستقرار السياسي بين الدولة والتنظيمات الحزبية والنقابية
غياب مفهوم الشرعية المؤسّساتية لدى الدولة واتّباعها سياسة التهميش المُمنهج للمواطنين والتضييق على حرياتهم اهم الاسباب
تراجع عوامل الإندماج الوطني بسبب إهمال عامل التنوع الديني والعرقي وهيمنة الجمود السياسي وضعف الدول الاقتاصدي والسياسي والاجتماعي
تعتمد هذه الدراسة التي أعدتها الاكاديمية الدكتورة شرف محمد علي المزعل ، على المنهج التاريخي من خلال تحليل «الربيع العربي» باعتباره حدثا تاريخيا جديرا بالدراسة؛ نظرا لوجود علاقة بين هذا الحدث وبعض الإشكاليات التاريخية لتطور أنظمة الحكم والمجتمعات العربية، حيث يتم تفكيك هذه الإشكاليات إلى مفاهيم عامة، يرتبط كل منها بعوامل تؤثر في التحول الديموقراطي لبلدان «الربيع العربي» .
ويتم دراسة الحدث على أساس نظرتيّن:
النظرة الظاهرة التي تعني بالتتبع الزمني للثورات العربية ضد الاستعمار بالقرن العشرين وأسبابها، ورصد تفاعلاتها حتى لحظة ظهورها كفاعل أساسي ساهم في حدث «الربيع العربي»، أي الاعتماد على الخبر عن حدث؛
والنظرة الباطنة، والتي تقوم على النقد والتحليل والأخذ بالأسباب التي رافقت الحدث التاريخي، للخروج بخلاصة عن الخلفية التاريخية للحدث. وعلاوة على ذلك، سوف يتم تحليل «الربيع العربي» كحدث تاريخي في ضوء صعوبات التحول الديموقراطي في المنطقة العربية، ودور الإشكاليات التاريخية في ذلك.
المبحث الأول: أثر الموروث التاريخي في التحول الديموقراطي بدول «الربيع العربي»
بدأ حدث «الربيع العربي»، كما سبق ذكره، في 17 ديسمبر 2010، في منطقة سيدي بوزيد في تونس، ومن هناك عمّ جميع أنحاء البلاد، مجبرا الرئيس زين العابدين بن علي، على الاستقالة؛ وبذلك رسم حدث «الربيع العربي» أول إشارة لتردّد ناجح للنظام الحاكم بين الاحتجاج الشعبي والاستنكار الرسمي. وبعد أن نجحت الثورة في تونس في إسقاط نظام الحكم وهروب بن علي إلى الخارج، نزل عشرات الآلاف من المصريين إلى ميدان التحرير في يوم العطلة الوطني؛ أي 25 يناير 2011، مُطالبين بتنحّي الرئيس حسني مبارك عن الحكم، واستمرت التظاهرات الشعبية الهائلة بالضغط على النظام إلى أن رحل الرئيس في يوم 11 فبراير.
وفي 2 فبراير 2011، توافد اليمنيون في «يوم الغضب» إلى الشوارع للمطالبة برحيل الرئيس علي عبد الله صالح، وسرعان ما تكرّر هذا السيناريو في ليبيا في 16 فبراير، وفي سوريا في 5 مارس 2011.
قد قدم الباحثون مجموعة من الأسباب التي دفعت الشعوب إلى الثورة على الأنظمة الحاكمة واستبدادها، ولعل أبرزها غياب الديموقراطية وانعدام حالة الاستقرار السياسي بين الدولة والتنظيمات الحزبية والنقابية، وكذلك غياب مفهوم الشرعية المؤسّساتية لدى الدولة؛ بسبب ارتباط الدولة كجهاز قانوني وكيان سياسي بشخص الحاكم، واتّباعها سياسة التهميش المُمنهج للمواطنين والتضييق على حرياتهم، وتراجع عوامل الإندماج الوطني بسبب إهمال عامل التنوع الديني والعرقي، وهيمنة الجمود السياسي، وضعف الدول العربية في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؛ حيث فشلت هذه الدول في تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية لشعوبها.
من الناحية التاريخية، كان الوطن العربي يعيش دائما على هامش الثورات المناهضة للقوى الاستعمارية، وكان أبرزها الثورة العربية الكبرى (1916 – 1918)، والتي أعلنها الشريف حسين بن علي ضد الحكم العثماني، حيث عكست هذه الثورة صلابة الموروث التاريخي الأيديولوجي، والمُتمثل في تعاظم الشعور القومي وامتداده في جميع البلدان العربية، ومواجهة سياسة القمع التي مارسها الأتراك ضد العرب، وضعف الحريات العامة، وحرمان المواطنين من حقوقهم، وتردّي الأوضاع الاقتصادية في الدول العربية، وعدم تجاوب الدولة العثمانية مع المطالب العربية بالإصلاحات الإدارية والاقتصادية. غير أن الشعور القومي العربي لم يخفت بعد فشل الثورة العربية الكبرى (1916 – 1918)، فقد انطلقت الثورة العراقية الكبرى ضد المستعمر البريطاني عام 1920، تعبيرا عن رفض ومقاومة الظلم والاستعمار، وفرضت تنازلات كبيرة على المستعمر البريطاني الذي مارس سياسة «فرِّق تسُدْ»، وسلب حقوق المواطنين وإفقارهم.
وكان من أبرز نتائجها زيادة الوعي القومي العربي وتصميم الشعوب العربية على مواصلة النضال ضد الاستعمار. وقد مثلت هذه الثورة تحولا تاريخيا هاما في تاريخ العرب المعاصر، وجاءت الثورة المصرية في 23 يوليو 1952 بقيادة الضباط الأحرار تتويجا للنضال القومي من أجل الاستقلال والحرية والوحدة، وتلتها الثورة الجزائرية (1954) وانتصارها عام 1962، والثورة في العراق التي اندلعت في 14 يوليو 1958، والثورة في اليمن (1962)، وكذلك السودان وليبيا (1969).
قد عملت الثورة المصرية (1952) على رفع مستوى الوعي القومي للجماهير من خلال التحالف مع حركة القوميين العرب (1949 – 1970)، وهي حركة تشكّلت من ثلاث مجموعات قومية من لبنان وسورية ومصر كرد مباشر على النكسة الفلسطينية عام ١٩٤٨ اعتبرت طريق الوحدة العربية أسلوبا وحيدا لاستعادة فلسطين، وقامت بنشر الأفكار القومية بين الجماهير في البلدان العربية، معبرة بذلك عن تزامن الحراك السياسي المحلي بحركات الوعي والتنوير العربية؛ مما مهّد لاستيعاب الشعوب العربية للأيديولوجية القومية.
رغم انتهاء الحرب الباردة الأيديولوجية (1991) بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وسقوط الدولة الشمولية في المنظومة السوفياتية والأوروبية الشرقية، واشتداد النزعة الليبرالية الأميركية، والتي تتضمن تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح في الدول العربية ، إلا أن الانتقال التدريجي العالمي نحو الديموقراطية لم يجد تجاوبا قويا في العالم العربي؛ لأنه لم يكن هناك قوى اجتماعية منظمة ومؤثرة، تطالب من أجل تطبيق الديموقراطية، وذلك في ظل استغلال الأنظمة العربية للمشكلات الاقتصادية، وللصراع العربي – الإسرائيلي، لتعزيز الوحدة العربية المزعومة والتصدّي للهيمنة الليبرالية الغربية؛ ولذا ساد في العالم العربي نموذج الدولة التسلطية والحزب الواحد الذي يستبعد المشاركة الشعبية في الحكم.
برؤية تاريخية، تظهر الحالة السياسية العربية الرهنة نمطا متكررا عبر تاريخها الممتد من انتهاء دولة الراشدين (661) وإلى سقوط الدولة العثمانية (1923)؛ أي على مدى ثلاثة عشر قرنا، ترسّخت تقاليد موروثة تقوم على رفض الديموقراطية التعددية والمشاركة الشعبية، وتكريس سياسة الحزب والرأي الواحد وفق مبدأ الإستيلاء بالغلبة، وقد فرضت نفسها بحكم الأمر الواقع. فبالعودة إلى وقائع التاريخ، وتحديدا إلى الطرق التي تم اعتمادها للتناوب على الحكم بعد الاستقلال السياسي، يتضح أنها تتمحور حول ركيزتيّن شكلتا ثابتا تاريخيا، وهما: الحسم العسكري والحكم العشائري . فقد تغذّى الحسم العسكري في مصر (1952)، والعراق (1958)، وسورية (1961)، واليمن (1978)، من الفراغ السياسي والأيديولوجي، وغياب التقاليد الديموقراطية، وشكل بذلك الأسلوب الوحيد المُحدد للصراع على الحكم .
أما الحكم العشائري، فيقوم على مبدأ التوريث كآلية للحفاظ على السلطة داخل أفراد الأسرة الحاكمة التي استقر لها الحكم، حيث توطّدت البُنى التقليدية في هذه البلدان، وترسّخ فيها الاستقرار السياسي، وقيمة الطاعة للسلطة.
يرى الجنابي أن المتأمل لتاريخ الانقلابات السياسية في العالم العربي يجد أنها مغامرات قوى هامشية أو راديكالية، تتحول جميعها مع مرور الزمن إلى دكتاتوريات فجّة. وحيث أن هذه الظاهرة قد عمّت العالم العربي، فإن ذلك يعني أن جذورها التاريخية الكبرى تقوم في طبيعة الانقطاع التاريخي الذي طال العالم العربي بعد خروج أغلب مناطقه من السيطرة العثمانية، ووقوعها في شباك الهيمنة الكولونيالية الأوروبية، وأن التاريخ العربي، كما يرى بلقزيز ، زخر بعوامل الانقسام الاجتماعي العمودي الذي تغذّى من هشاشة الدول التي قامت في تاريخ الإسلام، كالدولة العثمانية (1299 – 1922)، والتي لم تنجح آليات التوحيد القسري فيها في إخماد مفاعيل آليات الانقسام العصبي والمذهبي، حيث غدا انقسام المجتمع أحد المواريث التاريخية النافذة.
من هنا، جاءت أحداث «الربيع العربي» (2010 – 2019) لتعبر عن إشكالية تاريخية عميقة تعاني منها المجتمعات العربية، وهي إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع؛ إذ أنه في سائر المجتمعات الحديثة التي أنجزت ثورتها الاجتماعية، وأقامت الدولة الوطنية فيها، يُنظر للمجتمع بوصفه يمتلك الإرادة المؤسسة للسلطة السياسية التي أنشأتها، وهذه النظرة تتجاوز إطار الحق والقانون وصولا إلى إطار السياسة والمصلحة العامة للوطن والدولة والأمة، كما يجري العمل على منح أعضاء المجتمع المدني حق وحرية مزاولة العمل السياسي لهدف أسمى يتمثل في حماية المجال السياسي من الاضطراب .
وبالتالي تتمثل الإشكالية في المجتمع العربي في سوء فهم منظومة الحقوق والحريات، وهو ما انعكس على سوء فهم مسار العلاقة بين الفرد والسلطة؛ الأمر الذي كرّس الموروث التاريخي المتمثل في النمط التسلطي في علاقة السلطة بالفرد، فتجلّت ملامح طاعة السلطة بمظاهر الاستبداد التي تجسّدت في محطات عدّة عبر التاريخ العربي ؛ ومن ثم أضحى الاستحواذ بالسلطة وإلغاء الآخر واستخدام العنف ضد المعارضين سلوكا ثابتا في التاريخ العربي، وبات لاحقا أحد معيقات التحول الديموقراطي بدول «الربيع العربي».
... يتبع
مواضيع ذات صلة
الجذور التاريخية للعوامل المؤثرة في التحول الديموقراطي في دول «الربيع العربي» 1-7
https://www.delmonpost.com/post/shm03