باسم الوحدة العربية كانت المجتمعات تزداد انقساما على أسس عرقية وطائفية حيث وظفت الدولة التسلطية الانقسام في فرض استبدادها المطلق
تراجعت مستويات التعليم والصحة وتكرّست ظروف التأخر التاريخي وتحت السطح اختمر غضب الجماهير واشعلت ثورات «الربيع العربي» شرارته
أسباب الأزمة غياب النظام البرلماني الذي يتيح المجال للنقد الصحيح والسليم لمسيرة الأمة وعدم محاربة الفساد واستغلال النفوذ وغياب الحريات
تواصل الدكتور شرف محمد علي المزعل تحليلها في المبحث الثاني وهو أثر التأخر التاريخي في التحول الديموقراطي بدول «الربيع العربي» ، وتقول ، تعاني الأمة العربية منذ أكثر من قرن ونصف، من قضية الـتأخر التاريخي والتراجع الحضاري في مسيرتها النهضوية، بينما استطاعت أمم ودول التخلص من ظروف هذا التأخر والتخلف العلمي والتكنولوجي، ومنها بعض الدول الآسيوية، كالنمور الآسيوية مثلا (كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ)، والتي كانت متقاربة في وضعها الاقتصادي والاجتماعي مع الواقع العربي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وقد طرح بعض المفكرين والباحثين العرب، أسباب هذه الأزمة في مراحل مختلفة، حيث رأى بعضهم أن سببها غياب النظام البرلماني الذي يتيح المجال للنقد الصحيح والسليم لمسيرة الأمة، في المحاسبة الجادّة للفساد والمحسوبية واستغلال النفوذ، فيما أرجع البعض الآخر الأسباب إلى الاستبداد وآثاره الوخيمة في حركته الخانقة للإبداع، وتغييب الحرية التي تتجسد في الحق الطبيعي للمواطن في نيل حقوقه، وضعف مخرجات التعليم في البلدان العربية لهشاشة ارتباطها بأهداف التنمية الاجتماعية المستدامة.
من المنظور التاريخي، كان المؤرخ العربي ابن خلدون (1332 - 1406) أول من تناول مفهوم التأخر التاريخي في القرن الرابع عشر، وذلك في إطار بحثه للمشكله الجوهرية في علم التاريخ والمجتمع، وهي الدوافع الأساسية المحركة للتطور الاجتماعي التاريخي، حيث طرح قضية العمران كمصدر للسلطة طرحا ماديا تاريخيا . ويرى ابن خلدون أن الدولة تقوم على العصبية، ثم تقوى شوكتها حتى تصل إلى المُلك، ولأن من طبيعة المُلك الترف، وأن الترف سيرافقه ضعف للعصبية؛ فإن ذلك يؤدي لانهيار العمران والدولة . وتتلاشى الدولة لعوامل منها تسلط الوزراء، والعسف الجبائي، وفساد الأخلاق، وانتشار الظلم بالتسلط على أموال الناس؛ فالظلم يولد قلة العمل والمنتوج والمجاعة وخراب العمران .
رغم أن الطابع المعياري الأخلاقي قد طغي على تحليلات ابن خلدون، إلا أنه وجد في القطيعة بين السلطة السياسية والمجتمع المدني أهم مصادر الإخفاق التاريخي للعرب منذ القرن السابع الميلادي . وحدّد ابن خلدون ثلاثة مصادر للتأخر التاريخي، وهي: تبدّل أحوال الناس وأفول عمرانهم، وانهيار أخلاقهم وقيمهم الجديدة وافتقادهم للوازع الديني، وتراجع المكانة التاريخية لمنطقة المغرب بسبب انحسار تجارة القوافل؛ نظرا للارتباط بين التجارة والدولة والمجتمع، إذ أن الفائض المستخرج من التجارة مكّن الدولة من شق الطرق وحفر الآبار وضمان الأمن، وتحقيق التلاحم بين المصائر والسكان (ابن خلدون.
أما بعض المفكرين، ومن ضمنهم عبد الله العروي ، فيربط في أطروحته مفهوم التأخر التاريخي لدى العرب بجملة من التأكيدات، وهي وجود مرحلة متقدمة في تطور التاريخ بالنسبة لظروف مجتمعهم الأصلي، وإمكانية حدوث طفرة في التاريخ. وقد أرجع السبب في تأخر العرب التاريخي لما يقرب من قرنيّن إلى غياب الأيديولوجيا الفكرية التي تُستمد من فلاسفة غربيين، وقد انصب أبرز نقد العروي على الأنظمة القومية التي حكمت أهم الدول العربية، خاصة في مصر والعراق وسوريا، ثم الجزائر، ودول عربية أخرى، حيث يرى أن هذه الأنظمة لم تسترشد بالنظام الفكري الليبرالي للغرب، والذي يمثل الحل اللازم للتأخر التاريخي العربي.
يميز العروي ، بين ثلاثة أشكال من الوعي: الوعي الديني، الذي أرجع التأخر التاريخي للعرب إلى ابتعادهم عن قيم العقل والحرية التي أقرها الإسلام، ووعي رجل السياسة، الذي أكد أن قيم الديمقراطية والحرية السياسية التي بُنيت عليها نظم الحكم الحديثة هي شرط النهضة والحداثة العربية، ووعي داعية التقنية الذي اختزل قوة الغرب في منافع صناعته. إن هذا الوعي يقلل من شان الإصلاحات الدينية والثورات السياسية للغرب، ويحصر التفاوت التاريخي، والهوة الحضارية الفاصلة بين العرب والغرب في الصناعة فحسب.
بسبب تأخر المجتمع العربي التاريخي عن الغرب، كان وعي المثقف العربي بأشكال وعي الغرب المفروض أن تكون مطابقة لواقعنا التاريخي، وعيا غير مطابق لركب الحداثة والتطور.
ولذلك يجد العروي أن التأخر الذي يعيشه العرب لا يكمن في طبيعة الأنظمة ولا في الممارسات السياسية ولا في غياب الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني؛ أي لا يكمن في الاستبداد السياسي، بل يكمن فقط في ضعف النخب التي لم تستطع أن تنتج فكرا تاريخيا تحارب به الثقافة السلفية.
إن المسألة هي مسالة ثقافية بالدرجة الأولى، وهذه هي مهمة النخبة، لكن كل ما فعلته هذه النخبة هو إنتاج أيديولوجيا ضيقة وضعيفة. وبالنتيجة يؤكد العروي على ضرورة تأصيل الفكر التاريخي الذي يدافع عن قيم الحداثة والتقدم كخطوة هامة لتجاوز التأخر التاريخي الذي يعيشه العرب، وتحقيق إرادة سياسية وفكرية تنشد التقدم والنهضة .
أما الخطيب ، فيرى أن المنطقة العربية قد شهدت منذ غزو نابليون (1801) ثلاث مراحل تاريخية رئيسة، وهي: مرحلة الاستعمار الأوروبي حتى بداية استقلال الدول العربية؛ (1916 – 1945)، ومرحلة الحركة القومية العربية التي نشطت مع انتصار الثورة المصرية (1952)، واستكملت مع تشكل النظام الإقليمي الاستبدادي باستيلاء العسكر على السلطة؛ والمرحلة المُمتدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة (1991) حتى الآن. وفي المرحلة الأولى، تسللت الحداثة إلى المجتمعات العربية بحكم حاجة الإدارات الاستعمارية لكوادر محلية لتسيير شئون الانتدابات، وكانت هذه الحداثة سطحية، ومقطوعة الصلة عن جذورها الليبرالية والتنويرية، ولم تستطع اختراق البُنى الاجتماعية التقليدية القوية. ومن هنا برز التعارض بين الحداثة بطابعها السطحي الذي حمله القسم المديني الحديث في المجتمع، والذي حمل لواء مقاومة الاستعمار السلمية في سورية والعراق ومصر، وبُنى المجتمع التقليدي العربي التي تجلّت فيها مظاهر التأخر التاريخي.
أما في مرحلة صعود الفكر القومي، فقد أُعيدت المنزلة إلى المجتمع التقليدي ما قبل الاستعماري، وقامت الأنظمة التسلطية العسكرية التي اغتصبت السلطة بالقضاء على الأسس المدنية التي أحدثتها صدمة الحداثة، فأسهمت سياسات هذه «الدول السلطانية المحدّثة»، على حد تعبير الخطيب ، في تشكيل مجتمعات رعاعية تفتقر إلى سمات المجتمعات الحديثة، حيث قامت بالاحتكار المطلق للسلطة والثروة والقوة من خلال المؤسسات البرلمانية الصورية، والاتحادات والنقابات فاقدة المعنى، وتوليد حالات الاندماج الوطني القسري في تلك البلدان بحكم حاجة الاستبداد لحالات انقسام المجتمع بشعار وحدة وطنية زائفة قوامها التجييش الجماهيري للمجتمع بشقيّه التقليدي، والتقليدي الجديد الذي تبنّى بعض هوامش الحداثة التقنية والاجتماعية، باسم «الصمود والتصدي»، في مواجهة الصهيونية والاستعمار.
وتحت ظلال هذه الوحدة الزائفة، كانت المجتمعات العربية تزداد انقساما على أسس عرقية وطائفية، حيث وظفت الدولة التسلطية الانقسام في فرض استبدادها المطلق، وتسهيل هيمنة الجماعات التقليدية والعشائرية على المؤسسات الأمنية والعسكرية ؛ وبالنتيجة تراجعت مستويات التعليم والصحة، وتكرّست ظروف التأخر التاريخي مجددا، وتحت السطح اختمر تدريجيا غضب الجماهير، واشعلت ثورات «الربيع العربي» شرارته.
... يتبع
مواضيع ذو صلة ...
مواضيع ذات صلة
الجذور التاريخية للعوامل المؤثرة في التحول الديموقراطي في دول «الربيع العربي» 1-7
https://www.delmonpost.com/post/shm03
الجذور التاريخية للعوامل المؤثرة في التحول الديموقراطي في دول «الربيع العربي» 2-7
https://www.delmonpost.com/post/shm04
الجذور التاريخية للعوامل المؤثرة في التحول الديموقراطي في دول «الربيع العربي» 3-7
https://www.delmonpost.com/post/shm06