الهزيمة التاريخية للتيار القومي ما جعل الشعارات اليسارية في التحرير والتصدي والصهيونية تنتقل إلى عهدة الإسلاميين ورفع شعار «الإسلام هو الحل»
توظيف الاحتجاجات الشعبية للترويج لفكرة العداء للديموقراطية والتقدم في المنطقة العربية وبما يلبي طموحات القوى الغربية ويخدم مصالحها
غياب وعي ديموقراطي حقيقي في حركات «الربيع العربي»، يكفي لعزل القوى التلقليدية المحافظة ربما لعجز النخبة الديموقراطية العلمانية والتقدمية عن بناء وعي حداثي طليعي
قبل بدء الدكتورة شرف محمد علي المزعل تحليل المبحث الثالث في الدارسة وهو (أثر الانسداد التاريخي في التحول الديموقراطي بدول «الربيع العربي» ) تتطرق في هذا الجزء العوامل الخارجية وخصوصا ما عملته الولايات المتحدة الأميركية في استثمار تلك التطورات في خدمة توجهاتها الأساسية لتعزيز ركائز مشروعيّ الشرق الأوسط والشرق الأوسط الجديد.
وتضيف ، إذا كانت العوامل الداخلية السابقة تؤسس للتأخر التاريخي للعرب، والذي يتمثل في التناقض القائم بين وعي النخبة المُستوحى من خارج الواقع الاجتماعي العربي (البٌنية الفوقية) والواقع الاجتماعي العربي المتخلف لجهة البنية التحتية والانتاج المادي، فقد كان للعوامل الخارجية دور بارز في تكريس التأخر التاريخي، ومن أهمها: الهزيمة التاريخية التي لحقت بالتيار القومي العربي، وهو ما جعل الشعارات اليسارية في التحرير والتصدي والصهيونية تنتقل إلى عهدة الإسلاميين، وجعل شعار «الإسلام هو الحل» يتقدم إلى واجهة الكفاح ضد الإمبريالية؛ وقيام الثورة الإيرانية (1979)، وتبنيها لشعار «تصدير الثورة» إلى محيطها العربي الإسلامي؛ مما أفضى إلى المزيد في الانقسام والتخندق الطائفي في المجتمع العربي، لا سيما في ظل التوظيف السياسي والعسكري للحالة الجهادية في أفغانستان في مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق (1982)، حيث شكل ذلك فرصة لاستيلاد التنظيمات المتطرفة التي عملت على تعزيز التأخر التاريخي للمجتمعات العربية؛ وسيطرة سياسات الحرب الباردة (1947 – 1990)، والتي استثمرت في مناخات الحرب وبؤر التوتر في المنطقة العربية؛ مما مكّن القوى الاستبدادية من الصعود على حساب القوى الاجتماعية الأخرى. وقد عملت الولايات المتحدة الأميركية على استثمار تلك التطورات في خدمة توجهاتها الأساسية لتعزيز ركائز مشروعيّ الشرق الأوسط الكبير (2004)، والشرق الأوسط الجديد (2006)، وتوظيف الاحتجاجات الشعبية في بداية القرن الحالي (2010) للترويج لفكرة العداء للديموقراطية والتقدم في المنطقة العربية، وبما يلبي طموحات القوى الغربية ويخدم مصالحها.
مع دخول المنطقة العربية المرحلة الثالثة، والتي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة (1991)، أدركت الولايات المتحدة الأميركية - قبل الوصول إلى الانفجار التاريخي الكبير الذي مثلتهُ ثورات «الربيع العربي» - أنه من غير الضروري الإبقاء على الوضع الحالي للنظم العربية، لاسيما في ظل توجهاتها ورؤاها الجديدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، والتي ارتكزت على مُدخلات جديدة لتعميم استراتيجيتها وضمان استمراريتها لمراحل قادمة، من خلال الترويج للثقافة الأميركية وتعزيز الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان .
فالأنظمة العربية كانت، في نظر الإدارة الأميركية، قد استُهلكت، وأصبحت عبئا على شعوبها وداعميها؛ لأنها خلقت بممارساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية واقعا من البؤس والفقر والتأخر التاريخي الذي يتعارض مع أطروحات النظام العالمي الجديد التي تقوم على الحرية والانفتاح الاقتصادي، والذي كرسه ظهور قوى الإسلام السياسي بعد إسقاط النظام العراقي (2003)، وهي القوى المحكومة بعقد الهوية الموروثة من الصراعات المذهبية التي تنتج التأخر في السياسة والثقافة.
عندما حدث الانفجار التاريخي الكبير، بدءا بالثورة التونسية (2010)، والتي تتالت بعدها سلسلة الثورات في كل من مصر وليبيا واليمن وسوريا، حضرت تلك الانقسامات المجتمعية المذهبية والاثنية جميعها، وعلى الأخص الانقسام بين القسم المجتمعي التقليدي (القوة العسكرية للنظام) والقسم المجتمعي التقليدوي الجديد (المؤسسات المهنية والتعليمية والدينية)، حيث استعانت أنظمة الاستبداد بالقسم المجتمعي التقليدي الموالي لها لمحاصرة النزوع المدني الوطني الديموقراطي في ثورات الربيع العربي، وترسيخ الاحتكار المطلق للسلطة والثروة والقوة .
في أطروحته الحديثة، حاول المفكر المغربي محمد مستقيم (2021) تشخيص مظاهر التأخر التاريخي عند العرب انطلاقا من قراءة ما راكمه الخطاب النهضوي المعاصر، مُركزا على مفهوم التأخر التاريخي الذي تأسس عليه المشروع الفكري للعروي سالف الذكر، والداعي إلى إحداث قطيعة مع سلفية التفكير وانتقائيته، والخضوع لمنطق الفكر التاريخي بكل مقوماته وأسسه وقواعده لتحقيق التقدم المنشود. ويناقش الباحث جملة من القضايا التي كانت سببا في تعزيز وضعية التأخر التاريخي، ومن أهمها بُنية المجتمع البطريركي (الأبوي)، والذي يقود تحليلها إلى تشخيص لسلطة الخطاب الأبوي الذي يدعي الحقيقة المطلقة، نظرا لتغلغل تلك العقلية في بنية المجتمع العربي، وكذلك ظاهرة التخلف التاريخي في تجلياته النفسية والاجتماعية، حيث يُعاش التخلف كنمط وجود إنساني بتقنيات نفسية مقاومة للتغيير، كالاستسلام للخرافة لمواجهة العجز، وتراجع الذات العربية أمام سطوة العولمة والتحولات العالمية الكبرى، بالإضافة إلى التأثير السلبي الذي تؤديه الطائفية من خلال توظيفها السياسي والإيديولوجي في عرقلة مشاريع التطور والتقدم العربي، وذلك بتشجيعها على الانغلاق والتحجر، في زمن يفترض فيه الانفتاح ومواكبة الركب الحضاري المتسارع. ويرى الباحث في التحول نحو العلمانية حاجة ملحة لانجاز الحداثة المادية والفكرية في المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة، ومنفذا للخروج من مأزق التأخر التاريخي الذي تعاني منه، حيث تجسد هذه القضايا الكبرى، بوجه عام، إشكالية التراث والحداثة التي تحتاج المزيد من البحث.
وترى الباحثة أن الـتأخر التاريخي قد ترك تأثيرا سلبيا في سيرورة حركات «الربيع العربي»، وفي تحديد مآلاتها؛ فمع أن أغلب هذه الحركات الاحتجاجية يحمل أصلا مضمونا ديموقراطيا، إلا أن هذا المضمون، وباستثناء تونس التي عملت على تعزيز المكتسبات الديموقراطية والدستورية، كان مُحبطا في نتائجه، وفي انزياحه عن الفكرة الديموقراطية نحو الاستعانة باستبداد الحركات الإسلامية التي تحاول العودة مجددا إلى الحياة السياسية (السودان مثالا)، أو في نكوصه نحو استبداد عسكري جديد (مصر والجزائر)، أو غرقه في دوامة عنف عقيم (ليبيا وسورية واليمن)، وكل ذلك يتم في ظل غياب الإصلاحات الديموقراطية الجذرية التي تنشدها الجماهير وقوى التغيير في هذه الدول، والتي نظمت الاحتجاجات والتظاهرات المليونية من أجل تحقيقها.
إن سهولة التحول من المطلب الديموقراطي إلى المطلب بالحسم العسكري، تنم عن هشاشة الوعي الديموقراطي لدى عامة الناس، واختزال الديموقراطية في «صندوق الاقتراع»؛ وفي ذلك إشارة إلى الهوة الواسعة بين وعي الجماهير وواقعها الاجتماعي، وغياب وعي ديموقراطي متماسك وأصيل وحقيقي في حركات «الربيع العربي»، يكفي لعزل القوى التلقليدية المحافظة عن المشهد السياسي أو تحييد تأثيرها، ربما لعجز النخبة الديموقراطية العلمانية والتقدمية عن بناء وعي حداثي طليعي لدى عامة الجماهير الشعبية.