انحازت الأنظمة العربية لإعادة تعريف المصالح الوطنية لبلدانها ومُحدِّدات أمنها القومي في إطار جديد يخدم مصالحها السياسية في سبيل بقاء سلطتها
ساهمت الاحتجاجات الشعبية في دخول المنطقة العربية في دروب التعددية السياسية والتناوب على السلطة بعد طول جمود واختناق
الاستحواذ بالسلطة وإلغاء الآخر واستخدام العنف ضد المعارضين اهم معيقات التحول الديموقراطي وهيمنة الأيديولوجيا القومية والإشتراكية وفكر الإسلام السياسي
" أما القوى الاشتراكية العربية، فقد ربطت الحرية بالتحرر الوطني من الاستعمار، لكنها لم تشكل عنصر إشعاع للممارسة الديموقراطية والمعرفة المُعمقة بالواقع الاجتماعي؛ فقصُرت سياساتها على الاهتمام بالأيديولوجيا التي قدمت وعيا زائفا بخصوصيّات الواقع العربي. ومع أن هذه القوى أضافت عناصر جوهرية إلى الثقافة الوطنية، وإلى قيمة الديموقراطية، إلا أنها لم تتمكّن من الربط الجدلي بين العام في الحركة الثورية العالمية والخاص في إطار المجتمع العربي، وظلت مغتربة عن الواقع ووعي الجماهير الشعبية؛ ولذا كان إسهامها في محاربة التخلف محدودا. " هذا ما اختتمت به الاكاديمية الدكتورة شرف محمد علي المزعل بحثها (أثر الانسداد التاريخي في التحول الديموقراطي بدول «الربيع العربي» وتقول ، لقد طرح حدث «الربيع العربي» إطارا جديدا لفهم مجريات الصراع العربي – الإسرائيلي، فقبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية، كان هناك انكفاء شبه كامل للأنظمة العربية عن القضية الفلسطينية، ومحاولات حثيثة لاسترضاء إسرائيل خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث انحازت الأنظمة العربية لإعادة تعريف المصالح الوطنية لبلدانها ومُحدِّدات أمنها القومي في إطار جديد يخدم مصالحها السياسية في سبيل بقاء سلطتها. وبالنتيجة، تم إحلال مصالح النظام السياسي القطري مكان المصالح الوطنية العليا (القومية) للدول العربية.
وجاء حدث الربيع العربي لكي يمهّد لإقامة بيئة إقليمية وعلاقات وتحالفات جديدة، حيث تمثل القضية الفلسطينية أحد المرتكزات لهذه العلاقات؛ نظرا لدورها الهام في صياغة الأمن القومي للمنطقة . وإذا كانت الأنظمة العربية قد سعت، على مدى فترة زمنية طويلة، لإقناع شعوبها أنه لا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية ولا حرية ولا تنمية اجتماعية واقتصادية حقيقية ما لم يتم حل القضية الفلسطينية، فإن السعي لتحقيق مطالب هذه الشعوب في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والمحسوبية، وهي الأهداف التي اندلعت من أجلها حركات «الربيع العربي»، قد دفع باتجاه إسقاط الورقة الفلسطينية من أيدي الأنظمة العربية، والتحرك نحو إيجاد حل نهائي عادل ومستدام للقضية الفلسطينية.
وتضيف ، أما بالنسبة للإنسداد التاريخي الخارجي؛ أي العجز عن قراءة التراث العربي الإسلامي بصورة مغايرة للثوابت المطلقة والحقائق الثابتة للأيديولوجيات العربية، فإن الخروج من هذا المأزق لا يمكن أن يحدث ما لم يتم وضع العقائد والثوابت في التراث العربي على محك النقد والتقييم التاريخي، فبدون ذلك لا يمكن، كما يرى صالح ، أن تنحلّ مشكلة الطائفية والمذهبية، وأن يتم إقامة دولة الحق والقانون. لكن تفكيك التراث العربي الإسلامي ونقده يجب أن يتم تدريجيا، وليس دفعة واحدة، حتى لا يتم زعزعة العقلية الجماعية العربية، ولكي يستعيد العرب ثقة العالم بهم.
ترى الباحثة أن تحليل المسيرة التاريخية لحركات «الربيع العربي»، يوضح أنها قد تمكنت من فتح ثقب صغير في الجدار الاسمنتي للثوابت والعقائد التراثية المطلقة، وذلك في محاولة لفك الانسداد التاريخي الخارجي؛ فقد ساهمت الاحتجاجات الشعبية في دخول المنطقة العربية في دروب التعددية السياسية والتناوب على السلطة بعد طول جمود واختناق، ولم تعد فكرة الاستعصاء العريي أو الإسلامي على الديموقراطية والشفافية مقبولة بعد أن نجحت الثورة التونسية (2010) في إقرار الدستور الجديد للبلاد والدعوة للانتخابات العامة، وهو حدث قد يتكرر لاحقا في بقية البلدان العربية.
ويختتم الباحث بحثه بالوصول الى نتيجة بان حدث «الربيع العربي» (2010 – 2019) قد جاء تعبيرا عن إشكاليات تاريخية عميقة تعاني منها المجتمعات العربية، وهي إشكالية الموروث التاريخي المتمثل في النمط التسلطي في علاقة السلطة بالفرد، حيث تجلّت ملامح طاعة السلطة في مظاهر الاستبداد التي تجسّدت في محطات عدّة عبر التاريخ العربي؛ ومن ثم أضحى الاستحواذ بالسلطة وإلغاء الآخر واستخدام العنف ضد المعارضين سلوكا ثابتا في التاريخ العربي، وبات، في مرحلة لاحقة، أحد معيقات التحول الديموقراطي بدول «الربيع العربي»، بالإضافة إلى هيمنة الأيديولوجيا القومية والإشتراكية، وفكر الإسلام السياسي، على أنظمة الحكم العربية التي تحررت من الاستعمار.
لقد قادت مفاعيل الموروث التاريخي إلى ظاهرة التأخر التاريخي، والذي يتمثل في التناقض القائم بين درجة وعي النخبة، والمُستوحى من خارج الواقع الاجتماعي العربي، وهشاشة البنية التحتية لواقع المجتمع العربي. فعلى مدار قرون طويلة، وظفت الدولة العربية التسلطية الانقسامات العرقية والمذهبية والطائفية بالمجتمع في فرض استبدادها المطلق، وتسهيل هيمنة الجماعات التقليدية والعشائرية على الحكم ومؤسسات الدولة؛ وبالنتيجة تراجع مستوى الوعي الاجتماعي لدى الجماهير الشعبية. ولعب تفاعل التأخر التاريخي الثقافي والسياسي مع الاستبداد دورا ملحوظا في خنق البدايات السلمية في بعض أقطار «الربيع العربي»، وإعاقة التحولات الديموقراطية في البعض الآخر.
على نفس المنوال، فإن مفاعيل التأخر التاريخي قادت إلى الانسداد التاريخي الذي بدأ بانهيار الحضارة العربية الإسلامية في القرن الخامس عشر الميلادي بعد الكشوف الجغرافية (1497)، وتواصل في عجز الدول العربية عن محاربة الفقر والجهل والتخلف، وعن إيجاد حل نهائي عادل للقضية الفلسطينية، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، يبرز ضمور الحس التاريخي لدى النخبة العربية المثقفة في عجزها عن قراءة التراث العربي الإسلامي بصورة مغايرة للثوابت المطلقة والحقائق الثابتة للأيديولوجيات العربية واليقينيات الجمعية، وكذلك في هيمنة الطقوس والعبادات على حساب المعنى الحقيقي لروح الدين الإسلامي؛ وبالتالي الاغتراب عن معنى الدين ووظيفته النهضوية.
إن مجمل هذه الإشكاليات قد أدّت، في نهاية المطاف، إلى تباطؤ أو إعاقة التحولات الديموقراطية في أقطار «الربيع العربي»؛ فليس من الإنصاف التعميم بالغياب المطلق للتحولات في بعض البلدان، مثل تونس، والتي قطعت، كما سبق ذكره، شوطا في تجسيد الممارسات الديموقراطية.
ترى الباحثة أن السبيل إلى تجاوز الإشكاليات التاريخية سالفة الذكر يتمثل في العمل على تصفية مظاهر التسلط والاستبداد وإلغاء الآخر، وعزل قوى التخلف التاريخي عن المشهد السياسي، وقيام النخبة العلمانية المثقفة بدورها في توطين قيم الحداثة، وتطوير وعي تقدمي طليعي لدى عامة الجماهير، يساعد على تأصيل الأفكار والممارسات الديموقراطية، ويرسو بسفينتها إلى مرافئ النهضة والتقدم، إسوة بالشعوب الأخرى التي تمكّنت من تجاوز الماضي، والتقدم بثقة نحو المستقبل.
إذا كانت المفاهيم هي التي تميز التاريخ عن الرواية التاريخية ، فإن معالجة المفاهيم كإشكاليات تاريخية أساسية لا يساهم في تأريخ حدث «الربيع العربي» فحسب، بل يشجع الباحثين أيضا على تقصِّي قيمته ومكانته في التاريخ العربي المعاصر؛ فالأمر لا يتعلق بأهمية وأسباب الحدث التاريخي، ولا بالنتائج الفورية المُترتبة عنه، ولكن بما يتركه من آثار في طيّات الزمن، وبما ينتجهُ من ذاكرة جماعية لدى مكونات المجتمع .