بقلم : عبدالنبي الشعلة
تبادل الهدايا في مختلف المناسبات كتعبير عن مشاعر التقدير والمودة بين الناس أمر مألوف، ويعد عادة حميدة وتقليدًا تراثيًا تميزت به بعض الشعوب عن غيرها، وتتكثف هذه العادة في الكثير من المجتمعات بين شرائح رجال الأعمال وقت تبادل الزيارات فيما بينهم، وعلى سبيل المثال فقد لاحظ رجال الأعمال الخليجيون أن زملاءهم وأقرانهم من رجال الأعمال من الصين واليابان ودول شرق آسيا بشكل خاص عندما يزورونهم يحرصون على أن يقدموا لهم هدايا، رمزية في أغلب الأحيان، للتعبير عن تقديرهم وسرورهم باللقاء، وبهدف إضفاء الحميمية وترطيب وتوطيد العلاقات الشخصية مع من يلتقون بهم، بما يؤدي إلى تذليل وتسهيل إجراء المعاملات وإبرام الصفقات، إلا أن عادة تقديم الهدايا للموظفين والمسؤولين الحكوميين أو موظفي ومديري المؤسسات والشركات العامة، مهما يكن القصد من ورائها نبيلًا، ومهما يكن مستوى رمزيتها وتدني قيمتها المادية، لم تعد مستساغة أو مقبولة؛ خشية أن تأخذ صفة الرشوة أو تعتبر وجهًا من أوجه الفساد؛ بل أصبحت محظورة وممنوعة ويعاقب القانون عليها، فلا تجيز القوانين في الكثير من الدول للموظف الحكومي في أي مركز أو موقع قبول الهدايا والعطايا والإكراميات من الغير حتى لا تعتبر بمثابة الرشوة لتسهيل الحصول على امتيازات أو مقابل التغاضي عن مخالفات أو تجاوزات.
وفي السياق ذاته، وقبل قرابة الثلاثين عامًا ربطتني علاقة صداقة متينة؛ لا مصلحة شخصية ولا غرض يرجى من ورائها، بالسيد/ ديفيد رانسوم بعد أن عُيّن سفيرًا للولايات المتحدة لدى مملكة البحرين في العام 1994، وكان شخصًا مولعًا بالفن بمختلف صوره وخصوصًا فن الرسم، ويسعى بقدر استطاعته المادية إلى اقتناء وشراء اللوحات والسجاد العجمي، وقد قمت معه بزيارة إلى مرسم ومعرض “أرابيسك” للفنان عبدالوهاب الكوهجي الذي كان يقع وقتها في ضاحية أم الحصم من المنامة، فأعجب بإحدى اللوحات الزيتية بريشة عبدالوهاب الكوهجي نفسه لمنظر مألوف في قرى البحرين كافة، وكان سعرها 600 دينار، الذي وجده السفير سعرًا عاليًا أو فوق ميزانيته المخصصة لمثل هذه الأغراض؛ فصرف النظر مكرهًا عن شرائها. وبعد ثلاثة أشهر من تلك الزيارة في العام 1997 أعلن عن قرار الحكومة الأميركية انتهاء فترة عمله في البحرين ونقله إلى موقع آخر حسب النظام المتبع في وزارة الخارجية الأميركية، فقررت أن أشتري تلك اللوحة وأهديها له لتبقى رمزًا لعلاقة الصداقة التي ربطتنا وتذكارًا يبقي على صورة من بلادي أمام عينيه بعد أن يغادرنا ويعود إلى بلاده، ولهذه الأسباب أيضًا وافق عبدالوهاب على إعطائي خصم بواقع 50 % فاشتريت اللوحة بمبلغ 300 دينار وأهديتها له، ولما استلمها اتصل بي ليعتذر عن قبولها؛ لأن الأنظمة الأميركية لا تسمح بذلك، وفي حالة قبوله لها فإن عليه أن يسلمها لخزانة الدولة الأميركية فور عودته وأن يوافيهم بسعرها؛ وللخزانة أن تقرر ما إذا كان له الحق في الاحتفاظ بها أو إبقائها ضمن مقتنيات الخزانة، وعلى هذا الأساس قبل رانسوم الهدية، ولم أعرف بعد ذلك ما إذا وافقت الحكومة الأميركية على احتفاظه باللوحة أم قررت إبقاءها ضمن مقتنياتها، وقد توفي ديفيد رانسوم في العام 2003 بعد فترة ليست بالطويلة من مغادرته البحرين.
إن الإشارة إلى مثل هذه المواقف والتجارب والعودة إليها تستنهض في الوجدان وبكل حسرة ولوعة ما أرساه وأسسه فكر الرعيل الأول والسلف الصالح من مفكري وأئمة وقادة المسلمين الذين سبقوا غيرهم بمسافات طويلة في التأكيد على أهمية التزام القادة والمسؤولين بقيم الصدق والنزاهة والشفافية، فقد ورد في التراث الإسلامي أن الخليفة عمر بن الخطاب وقف على المنبر ممسكاً بيده صندوقاً وقال: “أيها الناس إن زوجتى أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب أرسلت إلى زوجة ملك الروم هدية عبارة عن تمر وحناء وطيب، فردت زوجة ملك الروم عليها بهذه الهدية”، وفتح عمر الصندوق أمام الحاضرين فإذا هو مملوء بالمجوهرات وسأل عمر الحاضرين: “هل هذه المجوهرات من حق زوجتى؟” فقال الحاضرون “نعم يا أمير المؤمنين إنها هدية بهدية ولا يشترط فيها التساوي فى القيمة”، وكان فى المسجد الإمام علي بن أبى طالب والد أم كلثوم زوجة الخليفة عمر، فوقف وقال: “يا أمير المؤمنين إن ظننت أنهم قد نصحوك فقد خدعوك؛ إنما أهديت الهدية لزوجة أمير المؤمنين، ولو كانت امرأة غير زوجة أمير المؤمنين ما أرسلت زوجة ملك الروم إليها بكل هذه المجوهرات”.
فقال الخليفة عمر: “وبِمَ تنصحني يا أبا الحسن؟”
فأجاب الإمام علي: “أما أنا فأرى أن تأخذ زوجتك من هذه المجوهرات بما يساوي قيمة ما أهدت به زوجة ملك الروم، وباقي المجوهرات يرد إلى بيت مال المسلمين”، فقال عمر: “لولا علي لهلك عمر”.
إنني لا أعرف مدى صحة هذه الرواية، ولست متأكدًا من وثاقة أو رجاحة مصدرها، لكنني أفهم العبرة من ورائها وأقدّر معناها ومغزاها، وعلى افتراض صحتها؛ فإنها تبرز كواحد من الأدلة التي تؤكد أننا نحن المسلمين قد سبقنا كل الشعوب والأمم والديانات الأخرى في إرساء وإعلاء فضائل وقيم العدالة والنزاهة، لكننا أدرنا ظهورنا لها وأشحنا بوجوهنا عنها وعملنا على نقيضها، سامحنا الله وهدانا سواء السبيل.