بقلم : عبدالنبي الشعلة
عندما تفجّر “طوفان الأقصى” في السابع من هذا الشهر كنت في جنيف؛ حيث تقع مراكز الكثير من المنظمات الدولية ويقع فيها مكتب الأمم المتحدة الذي كان يطلق عليه اسم المكتب الأوروبي للأمم المتحدة حتى العام 1966، من هذا الموقع استطعت أن أتابع وأستشف مواقف وآراء مختلف الأطراف منذ الوهلة الأولى، وكانت ردود الفعل سريعة ومتتابعة ومتباينة، لكن مواقف القوى الغربية الكبرى والدول الأوروبية وغيرها من الدول كانت شاجبة ومستنكرة لما حدث؛ واعتبرته عملًا إرهابيًّا ذهبت ضحيته أرواح الكثير من المدنيين الأبرياء في إسرائيل إلى جانب المئات من الجرحى والمفقودين والمختطفين.
وقد عبرت هذه الدول عن تعاطفها وتأييدها المطلق لإسرائيل بشكل غير مسبوق، وأكدت حق إسرائيل في استخدام الوسائل الكفيلة بالدفاع عن نفسها، وتقاطر كبار مسؤولي هذه الدول على تل أبيب كخطوة رمزية معبرة عن هذا التأييد، وقدموا لها الدعم المادي والمعنوي، والإسناد السياسي والعسكري، وأُرسلت بالفعل البوارج وحاملات الطائرات لحمايتها، وكانت ولا تزال الولايات المتحدة في مقدمة هذه الدول.
وعلى خلاف ذلك، فقد هبّت قطاعات واسعة في الشارع العربي والإسلامي بالتهليل والتكبير والتعبير عن فرحتها وإشادتها وفخرها واعتزازها بما فعله أو حققه في داخل إسرائيل فصيل القسّام التابع لحركة حماس الإسلامية، مع وجود قطاعات أخرى في الشارع ذاته ترى ما حصل في ذلك اليوم مغامرة غير محسوبة العواقب لا طائل من ورائها، وسيكون لها ردود فعل سلبية على القضية الفلسطينية وثمن غال ومُدمٍ.
ومن دون أن نتخلى عن موقفنا في شجب استخدام العنف والقوة والإرهاب لحل المشكلات مهما كانت المبررات؛ فإن ما قام به رجال فصيل القسام في اليوم السابع من هذا الشهر يستحق أن نقف أمامه وقفة تمعّن وتفهّم وإنصاف؛ فقد تمادت إسرائيل في غيِّها وظلمها وانتهاكاتها لأبسط حقوق الفلسطينيين وتدنيسها لمقدساتهم وتشديد الحصار الخانق على سكان قطاع غزة بشكل خاص؛ إلى أن بلغ السيل الزبى؛ ولم يُترك للفلسطينيين أي خيار آخر؛ فتفجر طوفان الأقصى.
في يوم واحد فقط، السابع من هذا الشهر، يوم طوفان الأقصى تكبّدت إسرائيل خسائر مادية ومعنوية فادحة وعميقة ومحرجة لم يسبق لها أن تكبّدت مثلها منذ قيامها لأكثر من 75 عامًا، فقد تمّت مباغتتها من قبل بضع مئات من المجاهدين المسلحين بأبسط الأسلحة، الذين اخترقوا حدودها، وتوغّلوا في داخل أراضيها دون أن يواجهوا أي مقاومة، واختطفوا وأسروا وقتلوا وجرحوا الآلاف من جنودها ومواطنيها في ذلك اليوم، وبذلك فإنهم أسقطوا أسطورة الجيش الذي لا يُقهر وحطّموا هيبته في أعين الإسرائيليين وغيرهم، وعرّوا مقولة القدرات الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية التي لا مثيل لها على وجه الأرض.
إن ما قام به هؤلاء المهاجمون الفلسطينيون في ذلك اليوم جعل إسرائيل تفقد توازنها وتعود إلى حجمها الحقيقي الذي يستنجد بالدول الأخرى لمساعدته على مواجهة التحديات.
إن العالم بأسره يرى اليوم كيف تحوّل الجيش الذي لا يقهر إلى آلة شرسة متوحشة، تقصف عن بعد، وتقتل المدنيين العزّل، وتدمّر البيوت على رؤوس ساكنيها، وتفتك بالنساء والأطفال، وتقصف المستشفيات والمدارس ودور العبادة.
لقد كان فعلًا طوفانًا جارفًا دفع بالقضية الفلسطينية إلى منعطف تاريخي دقيق، وقد صدق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عندما قال إن ما حدث في يوم 7 أكتوبر “سوف يغيّر الشرق الأوسط”؛ فإسرائيل سوف تكون أول من سيطولها التغيير القادم؛ فهي لن تبقى كما كانت، وإن حكوماتها لن تستطيع أن تستمر في غطرستها وطغيانها وتغولها وتنكّرها لأبسط مبادئ حقوق الإنسان. إن من أهم نتائج يوم طوفان الأقصى ارتفاع حدة الاستياء والتذمر من جانب قطاعات عديدة ومتزايدة من الشعب الإسرائيلي ومن الحركات الداعمة للسلام والجماعات والأحزاب الإسرائيلية اليسارية والمعتدلة ضد حكومة نتنياهو وضد الأجنحة والتيارات اليمينية المتطرفة في إسرائيل، وأصبحت هذه القطاعات تحمّل نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة والتيارات المساندة له مسؤولية ما حدث في السابع من هذا الشهر وتداعياته، وتطالب بمحاسبتهم ومعاقبتهم وإبعادهم عن الحكم، ومن دون أدنى شك فإن طوفان الأقصى سوف يقضي على حكم اليمين المتطرف في إسرائيل.
مرة أخرى نؤكد قناعتنا الصُلبة الراسخة بأن القضية الفلسطينية هي أقدس وأعدل قضية عرفتها الإنسانية، وأن الشعب الفلسطيني الشقيق تعرّض ولا يزال يتعرّض لأبشع وأشنع صنوف الظلم والاستبداد والقهر والإجحاف، في الوقت ذاته فإننا نؤكّد أيضًا على شجبنا لاستعمال العنف والإرهاب لتحقيق الأهداف مهما كانت مبرراتها ونبل مراميها، إلا أن ما قام به فصيل القسام في يوم طوفان الأقصى أيضًا أفاقنا نحن العرب جميعًا وأيقظ الوعي الجمعي العربي من حالة العجز واليأس والانكسار التي ألمَّت بنا نتيجة للهزائم التي مُنينا بها في صراعنا مع إسرائيل منذ قيامها؛ لقد أعادت لنا أحداث السابع من أكتوبر، على الرغم من فداحة ومرارة تبعاتها، الأمل والثقة في أنفسنا.
ومثل الملايين غيري فإنني لا أزال وسأبقى من المقتنعين بأن حل القضية الفلسطينية في هذه المرحلة وتحقيق العدالة والإنصاف للشعب الفلسطيني لن يتم إلا عن طريق الحوار والتفاهم والتعاون بين أطراف الصراع وبالوسائل السلمية؛ ففي هذه الأيام لا أحد ينتصر في الحروب، إسرائيل ذاتها قامت ولا تزال متّكئة على أركان الحروب والعنف والإرهاب منذ أكثر من 75 عامًا؛ وقد كسبت جولات عديدة في ميادين المعارك ضد العرب لكنها لم تحقق النصر والأمن والاستقرار حتى الآن، أميركا على الرغم من قوتها لم تنتصر في أي من الحروب التي خاضتها خلال العقود الخمسة الماضية، لم تنتصر في حرب فيتنام، ولم تنتصر في حربها في أفغانستان ضد طالبان لمدة عشرين عامًا، ولا في العراق. وروسيا أيضًا وهي القوة العظمى الثانية في العالم لم تستطع حتى الآن أن تحقق نصرًا في حربها مع أوكرانيا رغم تفوّق ميزان القوة لصالحها.
إن ما يعزّز ويفرض القناعة بضرورة التمسّك بالوسائل السلمية لحل القضية الفلسطينية هو عدم جدوى أو إمكانية اللجوء إلى استخدام القوة والعنف؛ نظرًا لاستمرار انقسام القيادة الفلسطينية، وتشتّت واختلاف الدول العربية وتناحرها، وتخلي عدد متزايد منها عن هذه القضية بحيث وجد الإنسان الفلسطيني نفسه يقف اليوم وحيدًا في ساحة المطالبة بحقوقه في معركة غير متكافئة بمسافات شاسعة، وفي مواجهة دولة مدجّجة بالأسلحة الفتّاكة ومدعومة بشكل فاضح ومتزايد من القوى الكبرى، وفي عالم تغلّبت فيه منظومة المنافع والمصالح على منظومة القيم والمبادئ.