قراءة لمشهد الانتخابات النيابية.. لنختر البناء وليس الهدم
بقلم : عبدالنبي الشعلة
المشهد الانتخابي الذي تعيشه البلاد اليوم يتيح لنا إجراء قراءة نقدية سريعة لمسيرة الحياة البرلمانية في البحرين، التي تستمر في البقاء والنمو وفي الانطلاق بكل ثقة وصلابة وإصرار رغم ما واجهته من معوقات وتحديات، بعد أن وطد دعائمها جلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه ضمن برنامجه الإصلاحي والتنموي الذي أرساه بُعيد توليه مقاليد الحكم في العام 1999.
إن الأمر الواضح الذي لا جدال فيه هو أن تجربتنا البرلمانية قد تخطت بالفعل مرحلة التأسيس وبناء المقومات، واكتسبت صفة الاستقرار والاستمرارية؛ فقد انعقدت دوراتها بانتظام ودون توقف أو انقطاع منذ الدورة الأولى في العام 2002، ولم نشهد حالات حل للبرلمان كما حصل بالنسبة لتجربة دولة الكويت الشقيقة.
وقد تجاوزت التجربة البرلمانية البحرينية بأمان محنة أو طوفان ما سمي بالربيع العربي في العام 2011، مع أن هذا الطوفان أدى إلى تراجع حضور أو وجود نواب يمثلون الجمعيات والتيارات والتكتلات السياسية في الدورات اللاحقة بعد أن شهدت دورة العام 2006 ارتفاعا وصعودًا لحضور التكتلات والجمعيات والتيارات السياسية الدينية التي تمكنت في تلك الدورة من الفوز بـ 75 % من مقاعد مجلس النواب؛ مع تقلص وتواري مرشحي التيارات الليبرالية وذوي الخبرات والقدرات الفكرية والمهنية المختلفة لصالح الدينيين، وكان “قانون الجمعيات السياسية رقم 26 لسنة 2005” قد وفر صيغة قانونية لتمكين هذه الجمعيات من ممارسة نشاطاتها السياسية، كما شهدت تلك الدورة دخول المرأة لمجلس النواب لأول مرة عن طريق الانتخاب في تاريخ المسيرة البرلمانية البحرينية.
وكمؤشر لنمو التجربة فقد ارتفع عدد المترشحين لانتخابات الدورة المقبلة، دورة 2022، إلى 316 مترشحًا بينهم 74 امرأة في حين لم يتجاوز عددهم 191 مترشحًا في الدورة الأولى للعام 2002.
وبالمثل فإن الكتلة الانتخابية التي يحق لها التصويت في الانتخابات المقبلة ارتفعت إلى 344713 ناخبًا، بينما كانت تبلغ نحو 243 ألفا فقط خلال الدورة الأولى للانتخابات.
واليوم نشهد مزيدا من المؤشرات التي تؤكد حجم الجهود التي بُذلت لبث وترسيخ الوعي الوطني بأهمية الممارسات الديمقراطية، واقتناع المجتمع البحريني بتلك الجهود وتجاوبه معها، والتقاء إرادة الأمة، قيادة وشعبًا، وإصرارها على نجاح هذه التجربة وعدم إجهاضها، أو التفريط في هذا المكسب الذي تم تحقيقه بعد بذل الكثير من العناء والتضحيات، كما تترسخ القناعة بالحاجة إلى دعم هذه المسيرة وإعطائها الفرصة ومزيدا من الوقت لتتطور وتزدهر ويشتد عودها، آخذين في الاعتبار أن الممارسات النيابية في الديمقراطيات المتقدمة احتاجت إلى قرون لتصل إلى ما وصلت إليه من نضج وثبات؛ هذا على افتراض أنها قد وصلت بالفعل إلى مرحلة النضج والثبات.
وفي ظل التطورات والظروف الراهنة فإن المسافات التي قطعتها مسيرة الحياة البرلمانية في وطننا الغالي وما حققناه حتى الآن يبرز دون شك كإنجاز وطني مشرف يجب حمايته والالتفاف حوله والعض عليه بالنواجذ، وقد تعدينا فترة المراهقة السياسية، ولم نعد نؤمن بالشعارات والأهازيج أو بأساليب القفز على المراحل والمسافات؛ أو نتأثر بالنداءات المثبطة للعزائم والهمم أو الداعية للإحباط والتشاؤم، وإذا لم تصل مثل هذه القناعات حتى الآن إلى البعض منا واختار التخلف عن الركب فهذا من حقه، ولكن ليس من حقه محاولة عرقلة المسيرة، واستخدام أساليب التهويل والترويع والإرهاب الفكري والتجريم والتكفير لمنع الناس من ممارسة حقهم المشروع الذي ناضلوا من أجل الحصول عليه، وإذا اختار هذا البعض ألا ينخرط في جهود البناء فليس من حقه رفع معاول الهدم والتخريب، ومع ذلك، فإن كل هذا يجب ألا يدفعنا إلى إغفال أو تجاهل أصوات أصحاب المقاصد والنوايا الحسنة ممن يريدون الأكثر والأحسن ويتطلعون إلى المزيد ومن يطمحون أو يطمعون في المزيد، فقلب القيادة وصدر الوطن يتسعان للجميع.
وبسبب الظروف التي مرت بنا، والمعطيات التي تحيط بنا، والتحديات والأخطار التي تحدق بنا، فإن مسيرتنا في هذه المرحلة قد تعاني من بعض السلبيات أو الثغرات أو بعض أوجه القصور؛ وهي أمور لا يجب أن ننفيها أو ننكرها أو نخجل منها، فنحن لم ندعي الكمال قط، وليس هناك نظام حكم سياسي يمكن أن يدعي الكمال؛ والديمقراطية بحد ذاتها وفي أفضل صورها توصف بأنها “أفضل أنظمة الحكم السيئة”.
ولا يوجد نظام برلماني على سطح الكرة الأرضية مثالي سليم خال من السلبيات والثغرات، ومن خلال مثل هذه الثغرات تسلل إلى كراسي السلطة في الكثير من الحالات عتاة الطغاة والديكتاتوريون، منهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتاتور الألماني أدولف هتلر الذي تمكن من خلال عضويته في مجلس النواب الألماني “البوندستاغ” الحصول على سلطات غير محدودة أدت في النهاية إلى نشوب الحرب العالمية الثانية.
والبحرينيون شأنهم شأن باقي الأمم والشعوب يحق لهم أن ينتقدوا ويعبروا عن عدم رضاهم وقناعتهم بأداء مؤسستهم التشريعية وأعضائها، فكل الشعوب في المجتمعات الديمقراطية تمارس هذا الحق بصور وأساليب مختلفة ومن خلال القنوات المشروعة، وهو لا يعتبر أمرا شاذا أو تجاوزا يخدش وطنيتهم وانتماءهم وولاءهم، أو يشكل خطرا على سلامة التجربة وأمن الوطن، بل إنه دليل على صحة المجتمع وقوة ممارساته الديمقراطية، وهل هناك شعب راض ومقتنع بأداء مؤسساته الدستورية حتى في الدول العريقة ديمقراطيًا؟ انظر كيف استهجن البريطانيون مؤخرًا أداء ممثليهم ومؤسستهم التشريعية العريقة وما مرت به خلال الأسابيع والأشهر القليلة الماضية والتي بسببها أصبحت بلادهم الآن تدار بيد “متجنس” حسب قاموس المصطلحات التي نحب نحن الرجوع إليه كلما دعت الحاجة.
إن الانتخابات النيابية هي استحقاق دستوري، ومشاركة الجميع فيها واجب وطني لا يجوز التخلي عنه، ومجلس النواب أصبح يمثل الإرادة الشعبية؛ فمن أراد التحدث باسم البحرينيين عليه أن يفعل ذلك من خلال صناديق الاقتراع وتحت قبة البرلمان وبالأدوات والأساليب المعروفة والمشروعة، والمعارضة الصحيحة لا تنطلق من الخارج بل تنبع من الداخل ومن قاعات المجلس التشريعي وردهاته، وإلا فإنها تصبح في أحسن الأحوال معارضة دون تفويض.
واليوم ونحن نعيش هذا العرس الديمقراطي البهيج، تفصلنا أيام معدودات عن موعد الانتخابات نرى المواطن البحريني وقد أصبح، وعبر التجارب التي مر بها، أكثر نضجًا وثقة وإدراكًا، وأكثر قدرة على القراءة، وأكثر التزامًا بالنّهج الديمقراطي، وسيختار دون أدنى شك طريق البناء وليس الهدم، وأسلوب المشاركة وليس المقاطعة، لأن المقاطعة كما قلنا من قبل سلاح العاجزين والضعفاء، وأمام صندوق الاقتراع سيحاسب المترشح السابق الذي خذله بعدم إعادة ترشيحه، وسينتخب المترشح الأكثر كفاءة، الذي يعي دوره الرقابي والتشريعي والقادر على الارتقاء بدور المجلس النيابي وترسيخ سلطاته واختصاصاته الثابتة في الدستور والمعززة بالقيم والمبادئ التي أرساها ميثاق العمل الوطني.