بقلم : عبد النبي الشعلة
أمس الأول؛ يوم السبت الماضي، كان من الأيام المشهودة في تاريخ البحرين الحديث، فقد شارك شعب البحرين، بكل أطيافه ومكوناته وبنسبة عالية في العملية الانتخابية، ومارس حقّه مرة أخرى في انتخاب ممثليه في مجلس النواب والمجالس البلدية، وخطت بذلك مسيرتنا الديمقراطية الواعدة خطوة أخرى إلى الأمام رغم حداثة عهدها ورغم التحديات التي واجهتها وتواجهها ورغم محاولات إرباكها وعرقلة نموها وتطورها، وبروح الإصرار والإيجابية والتفاؤل فإن هذه التحديات وهذه المحاولات إنما تؤدّي إلى ترسيخ وتعزيز ممارساتنا الديمقراطية وتجعلها أكثر صلابة وأشدّ عودًا؛ هكذا هي سنّة الحياة وناموس الطبيعة وقانونها.
وقد كنا نشاهد، وبحسرة وحيرة وتعجب كيف أن البعض، بعد أن فقد الرغبة أو القدرة على الاحتكام والركون إلى المنطق والعقل صار يلجأ إلى التحريض والتأليب والشحن الطائفي، وإلى ركوب الدين ومحاولة استغلاله لعرقلة مسيرتنا النيابية والتنموية، وتأزيم أوضاعنا الداخلية، وشق صفنا الوطني بالدعوة إلى مقاطعة الانتخابات، ولم يتردد هذا البعض عن استصدار فتاوى لإرهاب البحرينيين، مستهدفين الشيعة منهم، ومنعهم من ممارسة حقهم، وتجريم وتحريم مشاركتهم في الانتخابات، وتهديد من يخالفهم بالويل والثبور وعذاب القبور. وقد تضمّنت رسائلهم دعوة صريحة لعزل شيعة البحرين بشكل خاص وإبعادهم عن التفاعل والمساهمة في ركب تقدّم المجتمع ونموه وتطوره السياسي؛ ثم بعد ذلك سيتنادون للنياح والتباكي على التمييز والتهميش والإقصاء.
لكن شعب البحرين، سنّتهم وشيعتهم أصبحوا أكثر وعيًا ووصلوا إلى درجة متقدمة من الإدراك ولا يمكن أن يخدعهم تجّار الشعارات، أو يرضخوا للتهديد، أو تنطلي عليهم مثل هذه الفتاوى، أو يخافوا من اتهامهم بالكفر والخيانة والعمالة، اللهمّ إلا من وقع في الفخ منهم وأصبح فريسة وضحية للتخدير والتهديد والترهيب الذي نرجو من الله العلي القدير أن يمنَّ عليهم بالقوة والعزيمة والإرادة والرشاد ليتخلصوا من هذا الأسر المقيت، ويعودوا إلى جادّة الصواب، ويدركوا أن تحقيق المطالب لا يتم بهذا الأسلوب، بل من خلال المشاركة وعبر القنوات والأدوات المشروعة ومن داخل المؤسسات الدستورية.
وعلى كل حال، فعلى الرغم من كل الفتاوى والتهديدات والضغوط التي مورست لم يتراجع أو ينسحب أي من المترشحين الذين تضاعف عددهم في هذه الدورة، وقد رأينا يوم السبت الماضي حجم الإقبال على صناديق الاقتراع، ورأينا جموع الناخبين وبمشاركة نسائية وشبابية كثيفة تتدفّق على مراكز الاقتراع بهمّة وحماس غير عابئة أو مكترثة إلا بتأدية واجبها الوطني وممارسة حقها الدستوري.
وقد اكتشف المترشحون والناخبون التناقض في طرح المعرقلين؛ فهم من ناحية كانوا يدعون الشيعة إلى عدم المشاركة في الانتخابات ترشيحًا وتصويتًا، ثم في الوقت نفسه كانوا يشتكون من تدني مستوى المترشحين وغياب من أسموهم بالكفاءات، مع أننا لا نزال نتذكر مستوى وأداء مرشحيهم عندما شاركوا في الانتخابات لدورتين سابقتين؛ يوم كان التصويت والمشاركة وقتها واجبًا دينيًّا، وكان التهديد والوعيد ذاتهما يوجّهان لمن لا يشارك في الانتخابات ويصوّت لمرشحيهم فقط.
إننا مؤمنون بالله وفخورون بانتمائنا الإسلامي، ونجلّ ونحترم أصحاب الفضيلة العلماء ورجال الدين ونقدّر ترفعهم وعدم سماحهم لذوي الأغراض والمصالح باستغلالهم وبإقحام الدين وامتطائه لتحقيق أهدافهم وأجنداتهم.
وعن المقاطعة نقول إنه يجب الاستمرار في التصدي لها ولدُعاتها بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن لا يجب الخوف أو القلق منها، وقد رأينا يوم السبت الماضي أيضًا كيف أن الدعوة للمقاطعة أعطت نتائج عكسية، وفشلت ولم تثبت جدواها، ولم ولن تؤثر على مسار التنمية الديمقراطية، وهي ليست الأسلوب الأنجع والأمثل والأصلح لتحقيق المطالب مهما كانت مشروعة، وهي كما قلنا من قبل سلاح العاجزين والضعفاء.
والبحرين ليست الدولة الوحيدة التي واجهت دعوة لمقاطعة الانتخابات فيها، وهي كسائر الدول التي تتبنى الأنظمة النيابية الديمقراطية تسعى إلى تحقيق أعلى نسبة لمشاركة المواطنين المؤهلين للتصويت في الانتخابات من منطلق أن حجم المشاركة يحدّد منسوب ثقة الناخبين في الخيارات السياسية المطروحة. وقد تكللت بالنجاح مساعي وجهود الدولة لحث الناخبين على ممارسة حقهم والإدلاء بأصواتهم، وشاهدنا التجاوب بأم أعيننا في شكل طوابير المصوتين أمام مراكز الاقتراع؛ فبلغت نسبة المشاركة 73 % وهي نسبة عالية بكل المقاييس، وتشكّل أعلى نسبة مشاركة منذ انتخابات العام 2002 وتعكس إرادة شعب صمّم على مواجهة التحديات.
وبخلاف تحقيق 100 % أو 99.9 % كما كان يحدث في بعض الدول العربية فليس ثمة نسبة تعتبر مثالية، إلا أن تحقيق نسبة قريبة أو تفوق الـ 50 % من جملة المقترعين تجعل النفوس مطمئنة إلى أن المشاركة في الحياة السياسيّة عبر الاقتراع مازالت تحظى باهتمام المواطنين؛ فما بالك بتحقيق نسبة 73 %؟
وفي بعض الدول يعاقب القانون من يقاطع الانتخابات أو يدعو إلى ذلك، فهذه بلجيكا على سبيل المثال جعلت التصويت واجبًا إجباريًّا لا يجوز التخلف عن أدائه، والديمقراطية في بلجيكا كما هو معروف تعتبر من بين الأكثر رسوخًا في العالم، ويقضي القانون فيها على جميع المؤهلين للتصويت بالمشاركة في العملية الانتخابية، وإن عدم الالتزام بذلك قد يؤدي بصاحبه إلى دفع غرامة مالية مع إمكانية فقدان الحق في التصويت مرة أخرى في أي انتخابات مقبلة دون أن يعتبر ذلك من ضروب “العزل السياسي”، مع ذلك فإن نسبة المشاركة في بلجيكا لم تتعدى قط حاجز الـ 87 % وهي نسبة جعلتها تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم من حيث نسبة مشاركة الناخبين في الانتخابات.
نعم، في يوم السبت الماضي انتصرت الإرادة الشعبية، وأصبحت مسيرتنا الديمقراطية أكثر رسوخًا وصلابة وأكثر قدرة على الانطلاق بثقة وعزيمة، وأكثر إصرارًا على النجاح والتقدم.