بقلم : عبد النبي الشعلة
ثمة خطورة وإمكانية حقيقية، أو محتملة على أقل تقدير، لقيام النظام الإيراني في هذه الفترة بتصعيد حالة التوتر القائمة في المنطقة، وافتعال أزمة إقليمية جديدة لتبرير قيامه بعمل استفزازي قد يؤدي إلى اعتداء مسلح، ربما بالصواريخ أو المسيرات الإيرانية على واحدة من الدول العربية الخليجية، وبالتحديد المملكة العربية السعودية بعد أن اتهمها النظام الإيراني مؤخرًا بالتورط والضلوع في تأجيج الاحتجاجات الداخلية المتصاعدة التي يوجهها النظام منذ حوالي ثلاثة أشهر؛ وعلى ضوء ذلك فقد بات على دولنا العربية الخليجية أخذ الحيطة والحذر، وعدم الانجراف أو الاستجابة لأية محاولة إيرانية للاستفزاز، والتأهب والتهيؤ للأسوأ باتخاذ الإجراءات الوقائية والاستعدادات الأمنية الدفاعية اللازمة.
وإننا نبني هذا الاستنتاج بعد قراءة متأنية لواقع الوضع الأمني في منطقتنا، وبعد استعراض لجوانب من المعطيات التاريخية وتجارب الدول والشعوب؛ فمن ناحية التاريخ والعلوم السياسية هناك قاعدة أثبتت رسوخها وصمودها تفيد أن الأنظمة الحاكمة، خصوصًا المستبدة منها، إذا واجهت تحديات داخلية خطيرة أو قلاقل أو اضطرابات أو تصدعات داخل جبهتها الداخلية وعجزت عن السيطرة عليها واحتوائها كما هو حاصل في إيران الآن؛ فإنها تتجه للتخفيف من حدة الضغوط التي تواجهها داخليًا إلى فتح جبهات خارجية وافتعال حالة من التصادم والنزاع وتأزم العلاقات مع الدول المجاورة لها أو غيرها من الدول لتحويل وتوجيه أنظار واهتمام شعبها إلى الخارج حيث التهديدات المفترضة التي تحتم وضع الخلافات جانبًا وتوحيد المواقف ورص الصفوف وتوجيه كل الجهود والطاقات للتصدي للتهديد القادم من العدو الخارجي؛ إن هذا النمط من الممارسات السياسية معهود في تاريخ العلاقات الدولية، ويأتي في انسجام تام مع “التنظير السياسي الواقعي” الذي وضع أساسه السياسي الإيطالي، المفكر وفيلسوف عصر النهضة نيكولو مكيافيلي صاحب مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” ومؤلف كتاب “الأمير” الذي لا يمكن تجاوزه لدارسي علم السياسة الحديث، والذي أرسى مكيافيلي من خلاله قواعد عدة أصبحت تشكل أسسًا جوهرية ومحورية في العلوم السياسية.
ومن الناحية الواقعية والعملية فإن النظام الإيراني ما زال يتنفس على الهاجس الأمني الذي يسيطر على فكره وسلوكه، ويقتات على اجترار ما تعرضت له إيران في الحرب العراقية الإيرانية المدمرة الطاحنة التي دامت لثماني سنوات أكلت فيها الأخضر واليابس، ويستخدم ذلك في شحن الشعب الإيراني ليجعله يشعر دائما بمخاطر التهديدات الخارجية والحاجة إلى الوقوف وراء النظام لمواجهتها والتصدي لها؛ وهذا هو السر وراء تمسك النظام بشعار الموت لأميركا والموت لإسرائيل.
لقد وصل النظام الحاكم في إيران إلى طريق مسدود، بعد أن وسع ومدد سلطته باسم الدين من النطاق السياسي إلى الفضاء الاجتماعي والفضاء الثقافي، ما جعل الشعب الإيراني الصديق الجار يئن ويضيق ذرعًا من نير الكبت والتسلط والفاقة ويعيش اليوم في حالة من الغضب والغليان، والنظام الحاكم فيها يدرك أنه يواجه اضطرابات داخلية خطيرة قد تفضي إلى اقتراب ساعة الانفجار الكبير، أو أنها على أقل تقدير ودون أدنى شك ستحدث شروخًا عميقة في جدران النظام ستؤدي حتمًا في النهاية إلى انهياره، وهذه هي المرة الثالثة والأخطر التي ينتفض فيها الشعب الإيراني ضد النظام؛ فقد شهدت إيران احتجاجات واسعة في 2009 و2019 تمكن النظام من إخمادها لكن جمراتها بقيت تلتهب وتضطرم تحت الرماد وأعطت مزيدا من قوة الدفع للاحتجاجات والاضطرابات التي تشهدها إيران اليوم والتي قد تشهدها مستقبلًا.
وخلال أكثر من 40 عامًا منذ تسلمه السلطة في إيران سخر نظام الحكم فيها كل موارد الدولة وطاقاتها لبناء قوته العسكرية المتنامية التي أصبحت تشكل تهديدا فعليًا للدول المجاورة لها لا يمكن الاستهانة به، وتمكن من تكوين ترسانة ضخمة من الأسلحة والمعدات الهجومية مثل الصواريخ والمسيرات؛ وذلك كله على حساب جوانب الحياة والبناء الأخرى التي يتطلع الشعب الإيراني إلى تحقيقها وبلوغها، فأصبح النظام يواجه اليوم أزمة داخلية خطيرة وانتقادات دولية متصاعدة حول الأساليب القمعية التي يستخدمها في تعامله مع المحتجين والمتظاهرين، إلى جانب استمرار المقاطعة الخانقة والعزلة الدولية المحكمة؛ إن دولة في هذا الوضع وهذه الظروف تصبح مصدرًا للقلق والشك والريبة من جيرانها وباقي دول العالم.
ونظام الحكم في إيران لا يخفي نواياه ويستمر في التباهي والتفاخر بعلانية والتلويح بقوته وتفوقه العسكري في وجه دول المنطقة من خلال التصريحات والمناورات والتدريبات والاستعراضات العسكرية التي يقيمها بانتظام، إلى جانب التجارب المتوالية المتعلقة بمختلف منظوماته العسكرية، وإصراره على الاستمرار في تطوير برنامجه النووي وقدراته الصاروخية البالستية القادرة على حمل رؤوس نووية، وبناء الهياكل والقواعد السرية الضخمة تحت الأرض، ومجمعات الصواريخ ومنصات الإطلاق والمخابئ والمخازن وغيرها من المرافق والاستعدادات، وفي حومة هذا السياق يأتي التسابق في التسلح بين الجيش النظامي والحرس الثوري؛ ما جعل إيران تبدو وكأنها ثكنة عسكرية ضخمة مرعبة لجيرانها ولدول العالم وتشكل تهديدا حقيقيا للأمن والاستقرار في منطقتنا.
وقد يقول قائل: أليس من حق إيران شأنها شأن أي دولة أخرى تطوير قدراتها الدفاعية والعسكرية؟ فنقول هذا صحيح لولا أن الفكر الذي يتبناه النظام الإيراني محكوم ومسكون بالرغبة الجامحة والإصرار على التوسع في المنطقة وأن التسلح بمنظوماته المختلفة هو أداة لتحقيق هذه الرغبة.
كل هذه الحقائق والمعطيات تفرض على الدول العربية الخليجية كما قلنا أخذ الحيطة والحذر، وعدم الانجراف أو الاستجابة لأية محاولة إيرانية للاستفزاز، والتهيؤ للأسوأ باتخاذ الإجراءات الوقائية، وتعزيز قدراتها الأمنية والدفاعية، وتوثيق تحالفاتها العسكرية مع القوى الكبرى الصديقة، مع الأخذ في الاعتبار أن النظام الحاكم في إيران هو حالة طارئة مآلها الزوال إن عاجلًا أو آجلًا، وإن إيران بشعبها الصديق ستبقى دولة جارة تجمعنا بها وشائج الدين والجوار الجغرافي والتاريخ المشترك؛ هكذا شاءت الأقدار، ما يتطلب منا الحرص والسعي قدر الإمكان على مد جسور التواصل وفتح قنوات الحوار والتفاهم معها من دون التفريط في مواقفنا المبدئية وحقوقنا وتأهبنا الأمني