عمال البحرين ويوم العمال العالمي... كلمات للتاريخ
بقلم : عبد النبي الشعلة
اليوم يحتفل عمال البحرين ويشاركون عمال العالم الفرحة والاحتفال بعيدهم السنوي “يوم العمال العالمي”، وتشارك الدولة أيضًا بجميع مؤسساتها وقطاعاتها الحكومية والخاصة عمال البحرين باعتبار هذا اليوم عطلة رسمية تمنح سنويا لجميع العاملين في هذه المؤسسات والقطاعات احتفاء بهذه المناسبة، وقد أصدر قبل أيام صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس الوزراء حفظه الله ورعاه تعميما حدد فيه هذا اليوم الأحد 1 مايو عطلة رسمية، ليتزامن هذا العام مع الاحتفال بعيد الفطر السعيد ومرور 20 عاما على إصدار قانون النقابات العمالية للعام 2002.
ومع أن اللجنة العامة لعمال البحرين (وهي التسمية التي كانت تطلق على التنظيم العمالي قبل أن تتحول إلى نقابة) كانت تحتفل بهذا اليوم كل عام منذ تأسيسها في العام 1982، إلا أن أول تعميم بشأن عطلة يوم العمال العالمي صدر في البحرين من رئيس الوزراء وقتها المغفور له صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه، ونشر في 30 أبريل 2003 في الجريدة الرسمية رقم 2580، وقد صدر ذلك التعميم بأمر وتوجيه من صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه، وذلك بعد أشهر من إقرار وصدور أول قانون للنقابات العمالية في البحرين في شهر سبتمبر 2002.
فبعد أن تولى جلالته مقاليد الحكم في البلاد في العام 1999 بادر بإرساء برنامج للإصلاح والنهضة الوطنية الذي تبلور في مشروع “ميثاق العمل الوطني” وحظي بموافقة 98.4 % من أصوات البحرينيين الذين شاركوا في الاستفتاء عليه في شهر فبراير 2001.
ومن بين أبرز استحقاقات الميثاق، وتحقيقا لواحد من أهم أهدافه، واستجابة لرغبة وتطلعات عمال البحرين فقد تلقيت أمر جلالته بصفتي وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية وقتها بسرعة الشروع في إعداد مسودة قانون للنقابات العمالية يكون منبثقا من مبادئ الميثاق الوطني، ومرتكزا على قيمنا وتراثنا، ومنسجمًا في الوقت نفسه مع روح العصر، ومتفقا مع الأنظمة والمعايير الدولية المعتمدة من منظمة العمل الدولية، وقادرا على استيعاب أي مستجدات أو تطورات قد تطرأ مستقبلا، لكي يُعرض على مجلس الوزراء لمناقشته وإقراره قبل رفعه لجلالته للتصديق عليه وإصداره.
ولعل الكثيرين لا يعلمون أن إصدار القوانين عادة تأخذ في البحرين، كما في سائر الدول المتطورة، مراحل أو مسارات مُحكمة تنطلق من الجهة المعنية بالقانون ثم الجهاز أو الإدارة المختصة بالشؤون القانونية في الحكومة التي تفحص كل قانون يحال إليها من الناحية القانونية لضمان عدم تعارضه مع نصوص الدستور أو مع القوانين الأخرى أو الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها الدولة، وقبل سنوات كانت حكومة البحرين تضم وزارة مختصة بهذا الشأن تحت مسمى “وزارة الشؤون القانونية”، وكان من أبرز من تقلد حقيبة هذه الوزارة الدكتور حسين محمد البحارنة. بعد ذلك ترفع مسودة القانون إلى مجلس الوزراء الذي يراجعها مراجعة أو قراءة أولية، وفي حالة الموافقة عليها من حيث المبدأ تحال إلى اللجنة الوزارية للشؤون القانونية المكونة من عدد من الوزراء والخبراء القانونيين، والتي كان يرأسها لسنوات عديدة المغفور له سمو الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة (رحمه الله) بصفته وزيرا للعدل والشؤون الإسلامية وقتها، والتي كنت عضوا فيها لأكثر من دورة. وبعد اكتمال هذه المرحلة تعود مسودة القانون إلى مجلس الوزراء لمناقشته وإقراره في صيغته النهائية ثم رفعه إلى جلالة الملك لإصداره. وبعد أن شكل المجلس الوطني بغرفتيه (النواب والشورى) صار لزامًا على مجلس الوزراء إحالة مسودة القانون إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره قبل أن يرفع إلى جلالة الملك لإصداره، وفي كل مرحلة من تلك المراحل يخضع أي قانون من القوانين التي تصدرها الدولة للتقييم والمراجعة الدقيقة والتعديل حتى يصل إلى صيغته النهائية، إلا في الحالات الطارئة أو الاستثنائية النادرة.
وتنفيذا لأمر جلالة الملك فقد كلفت الدكتور محمود سلامة المستشار القانوني وقتها بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية لإعداد مسودة القانون المطلوب. والدكتور محمود سلامة خبير قانوني متمرس في شؤون العمل منتدب ومعار من قبل الجهات القانونية المعنية بجمهورية مصر العربية للعمل في الوزارة كمستشار؛ كلفته بسرعة الشروع في إعداد مسودة القانون، التي أنجزها في وقت قياسي وتم عرضها على لجنة ضمت في عضويتها المرحوم الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله آل خليفة وكيل الوزارة الذي اختاره الله إلى جواره بعد فترة من تقاعده، والمرحوم صادق الشهابي الوكيل المساعد لشؤون العمل الذي أصبح بعد تقاعده عضوا بمجلس الشورى ثم وزيرا للصحة في العام 2012، والسيد صباح الدوسري مدير مكتبي الذي أصبح فيما بعد وكيلا للوزارة وبعد بلوغه سن التقاعد أصبح عضوا في مجلس الشورى وهو ما يزال محتفظا بهذا الموقع حتى الآن.
وقد أخضعت اللجنة مسودة القانون للنقاش الذي شارك فيه أيضًا ممثلو العمال ورجال الأعمال، وتمت في الوقت نفسه الاستعانة بآراء المختصين من الخبراء بمكتب منظمة العمل الدولية بجنيف، وقد أكد القانون في صدارته أن من بين أبرز أهداف النقابات في البحرين حماية الحقوق المشروعة لأعضائها والدفاع عن مصالحهم وتحسين ظروف وشروط العمل، وتعمل النقابات بوجه خاص على نشر الوعي بين العمال ورفع مستواهم الثقافي والمهني والفني والاقتصادي والاجتماعي، إلى جانب المشاركة في المحافل العمالية العربية والدولية وعرض وجهة نظر عمال مملكة البحرين من خلالها. وأعطى القانون العمال في أي منشأة أو قطاع أو نشاط معين الحق في تأسيس نقابة خاصة بهم بغض النظر عن عددهم.
بعد ذلك أخذت مسودة القانون المسار المعتاد المشار إليه أعلاه، وفي كل مرحلة من المراحل كانت كل مادة من مواده تخضع لمزيد من المناقشة والتقييم قبل الموافقة عليها، إلا أن المادة التي حظيت بأكثر النقاشات حدة وجدلا في كل المراحل كانت المادة رقم 21 التي أعطت العمال حق الإضراب عن العمل كوسيلة مشروعة للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، على الرغم من أن المادة ذاتها وضعت وحددت بكل وضوح وإسهاب شروطا وضوابط عملية منصفة يجب اتباعها قبل الشروع في تنفيذ الإضراب، فقد وجد البعض في هذه المادة تشجيعا ودعوة صريحة للعمال للجوء إلى الإضراب كوسيلة من وسائل الضغط والابتزاز لإجبار أصحاب الأعمال على الرضوخ والخضوع لمطالبهم، وفي النهاية تمت الموافقة من الجميع على هذه المادة تأسيسًا على ثقة قيادتنا الرشيدة في عمال البحرين وفي مدى ما يتمتعون به من حس وطني وإحساس بالمسؤولية، وقد أثبتت الأيام أن هذه الثقة كانت وما زالت في محلها، إذ لم تتعرض البلاد إلى أي إضراب عمالي محسوس منذ صدور القانون قبل 20 عامًا، مع الإشارة إلى أن الدعوة للإضراب عن العمل التي انطلقت في أجواء ما سمي بالربيع العربي وضمن أحداث 2011 المؤسفة كانت ذات طابع سياسي، وكانت الاستجابة لها متواضعة وقصيرة الأجل.
لقد كان وظل عمال البحرين يضعون المصالح الوطنية العليا قبل وفوق أي اعتبار، مع الالتزام ودون التفريط في حقوقهم وأهدافهم وتطلعاتهم التي كان على رأسها تأسيس نقابات خاصة بهم على أسس المعايير الدولية، وقد انتهجوا في سبيل تحقيق ذلك النهج الوطني الواقعي المسؤول فرحبوا بالانخراط في مشروع اللجان العمالية الذي أطلق في العام 1982 كخطوة على الطريق ملتزمين في الوقت ذاته بأسلوب الحوار والتطوير والتدرج ومتمسكين بالمطالبة بتأسيس النقابات دون الرضوخ للضغوط التي كانت توجه لهم من الخارج، وضمن هذا السياق فقد عاصرت وتفاعلت مع رؤساء وأعضاء اللجان العمالية لثلاث دورات متتابعة، وهم الأخ سعيد السماك والأخ فيصل فولاذ والأخ عبدالغفار عبدالحسين ووجدتهم بالفعل على أعلى درجات المصداقية والجد والاستقامة والإخلاص والولاء للوطن وقيادته الرشيدة.
لقد ابتهج عمال البحرين بصدور قانون النقابات العمالية في العام 2002، وانهالت عليهم وعلى جلالة الملك المفدى وأركان الحكومة الرشيدة الاتصالات والرسائل والبرقيات المهنئة بهذا الإنجاز العمالي الناصع الذي جاء تتويجا لكفاح عمال البحرين واستجابة لرغباتهم وتطلعاتهم، ومن بين المتصلين كان السيد خوان سومافيا المدير العام لمنظمة العمل الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة الذي هنأ وأشاد بالقانون، مؤكدا أنه متوافق مع المعايير الدولية ومتميز عن غيره من القوانين المثيلة في الدول العربية كلها وغيرها من الدول في أوجه عدة، أبرزها إعطائه العمال الأجانب حق العضوية وحق الدخول في مجلس إدارة النقابة.
من هذا القانون انبثق بعد بضعة أشهر قرار إعلان يوم 1 مايو عطلة رسمية، تقديرا ووفاء لعمال البحرين ولعطائهم وإنجازاتهم، وكل عام وأنتم بخير