DELMON POST LOGO

الصحافة المصرية .. والتعاون لمواجهة تحديات الغزو الرقمي

بقلم : عبد النبي الشعلة
روى لنا الخليجيون الذين زاروا مصر مع بداية القرن الماضي ما رأيناه بأعيننا لاحقا من شغف المصريين وتعلقهم بقراءة الصحف الورقية، ومن توفر الأكشاك التي تبيعها في كل الأماكن، وانتشار الباعة المتجولين صباحًا ومساء لتوزيعها على المشتركين وبيعها في الميادين وعلى أرصفة الطرق والشوارع وتقاطعاتها، بحيث أصبح انتشار الصحف وقراءتها جزءا من تراث وأسلوب حياة المصريين؛ يحرص المتعلمون منهم على قراءتها عند تناول الإفطار في بيوتهم وفي أماكن عملهم وفي المقاهي وعند سفرهم أو تنقلهم في القطارات والحافلات، وانتعشت نتيجة لذلك صناعة الصحافة في مصر التي ارتكزت على إرث تاريخي أرسى لبناته الأولى نابليون بونابرت في حملته على مصر في العام 1798 عندما جلب معه مطبعة أصدر بواسطتها ثلاث صحف؛ اثنتان باللغة الفرنسية، والثالثة باللغة العربية واسمها “التنبيه”، ثم جاء الخديوي محمد علي باشا وأنشأ في العام 1822 مطبعة بولاق كأول مطبعة حكومية صدر منها “جرنال الخديوي” في العام 1827 التي تطورت وتحولت لاحقًا إلى “جريدة الوقائع المصرية” لتصبح مصر بذلك رائدة الصحافة ومرتكز انطلاقها في العالم العربي.
واستمرت مسيرة نمو وتطور الصحافة في مصر وبلغت مرحلة متقدمة من المهنية والوعي والانفتاح والنضج السياسي بعد أن تمتعت بحرية الفكر والتعبير والنقد حتى منتصف القرن الماضي، ثم عادت الآن إلى مواصلة منهجها بعد أن تقلد الرئيس عبد الفتاح السيسي وفقه الله مقاليد القيادة في العام 2014.
لذلك كله ولغيره من المعطيات والعوامل تظل مصر هي المرجعية الإعلامية وتبقى دور نشرها العملاقة وقلاعها الصحافية هي الملاذ والمرتكز للحراك الصحافي العربي في كل المراحل، وقد رأينا كيف اعتمدت الصحافة الخليجية عمومًا والبحرينية بشكل خاص في انطلاقها مع بداية السبعينات من القرن الماضي على الأقلام والكفاءات الصحافية المصرية التي استُقطِبت وأسندت إليها مواقع متقدمة في قيادة عملية إصدار وتطوير الصحف الورقية، فاستفادت الصحافة الخليجية الناشئة في ذلك الوقت من الخبرات المصرية ومن منابع فكرية وأساليب ومدارس صحافية متعددة مثل مدرسة محمد حسنين هيكل من مؤسسة “الأهرام”، ومدرسة الأخوين مصطفى وعلي أمين من مؤسسة “أخبار اليوم”، ومدرسة إحسان عبدالقدوس من مؤسسة “روز اليوسف” وغيرها من المنابع والمدارس الفكرية والصحافية المصرية.
وكما هو معروف، فإن الصحافة الورقية بشكل خاص ووسائل الإعلام التقليدية عمومًا تواجه اليوم، في أرجاء العالم كله، تحديًا شرسًا من وسائل الإعلام الإلكترونية الحديثة، وعلى رأسها المنصات الرقمية، ومنها وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تلعب دورًا متسعًا في تشكيل الرأي العام، وأحدثت تحولًا كبيرًا في طرق وآليات تلقي الجمهور للمحتوى الصحافي، ولا تستطيع الصحافة المصرية أن تشذ عن هذا النهج أو تسلم من هذا التحدي والتهديد.
وفي زيارتي الأخيرة للقاهرة قبل بضعة أيام، التي رافقني فيها زميلي الأخ مؤنس المردي رئيس تحرير جريدة البلاد، زرت المقر الرئيسي للهيئة الوطنية للصحافة أو المجلس الأعلى للصحافة سابقًا، وهي الجهة المستقلة والمسؤولة عن شؤون التنظيم المؤسسي للإعلام وإدارة المؤسسات الصحافية القومية المملوكة للدولة البالغ عددها 8 مؤسسات تنشر نحو 50 إصدارًا ورقيا، وتشمل مؤسسة الأهرام، مؤسسة أخبار اليوم، مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر والصحافة، دار الهلال للصحافة والنشر، دار روز اليوسف للصحافة والنشر، وكالة أنباء الشرق الأوسط، الشركة القومية للتوزيع ودار المعارف للصحافة والنشر.
ثم زرت واحدة من أبرز صروح الصحافة المصرية، وهي دار التحرير للطبع والنشر والصحافة التي تصدر جريدة “الجمهورية” اليومية وعددا من الإصدارات الورقية الأخرى، وهي الأحدث من بين دور النشر المصرية الكبرى، فجريدة الأهرام على سبيل المثال صدرت في العام 1875م، بينما وقع تصريح إصدار جريدة الجمهورية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في العام 1953 بعد بضعة أشهر من قيام ثورة 23 يوليو 1952، وكان أول رئيس تحرير لها أو مديرها العام الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وفي كلتا المؤسستين، الهيئة والدار، التقيتُ كبار المسؤولين فيهما والذين يقفون اليوم في مقدمة قامات وأعلام الصحافة المصرية وفي الصف الأمامي لأبرز المتقلدين لمواقع المسؤولية في قطاع الصحافة المصرية، وهم من دون أدنى شك على دراية وإدراك تامين بطبيعة وحجم التحديات والأخطار التي تواجهها الصحافة الورقية وما يتطلبه ذلك من إجراءات، وقد اتخذوا بالفعل جملة من الخطوات العلاجية والوقائية والاستباقية التي يمكن اعتبارها مرجعية لكل الجهود المبذولة للتصدي لهذه التحديات، منها تقليص المصروفات، وتخفيض عدد الصفحات والأعداد المطبوعة، والارتقاء بمستوى المضمون، وإطلاق منصات رقمية موازية تبث جنبًا إلى جنب مع الصحف والإصدارات الورقية، وتدريب الكوادر الصحافية وتأهيلها للتأقلم مع بيئة الصحافة الرقمية، وغيرها من الإجراءات والإنجازات. وقد استعرضنا معهم مختلف أوجه التحديات التي تواجهها الصحافة الورقية، وتباحثنا وتبادلنا الآراء والمرئيات وتناقشنا في فرص وإمكانيات التعاون والاستفادة من تجارب وخبرات بعضنا بعضًا لمواجهة هذه التحديات.
ومع أن دور النشر القومية في مصر توقفت عن إصدار الطبعات أو النسخ المسائية من الصحف التي تصدرها، إلا أنهم جميعًا اضطروا إلى الإبقاء على الآلاف من الصحافيين والقائمين على إصدارها والعاملين في مختلف مواقع المساندة للعمل الصحافي فيها، ولم يتمكنوا من الاستغناء عن خدماتهم بحيث انحصرت نتائج هذه الخطوة في مجرد توفير قيمة الحبر والورق.
فعندما تم تأميم الصحف المصرية في العام 1960 بعد سنوات قليلة من الإطاحة بالنظام الملكي، وإصدار صحف قومية أو حكومية جديدة، أصبحت دور النشر، شأنها في ذلك شأن كافة مؤسسات وشركات الدولة، أوعية لاستيعاب مئات الآلاف أو ربما الملايين من الأيدي العاملة الفائضة التي انتقلت بذلك من موقع البطالة المكشوفة إلى موقع البطالة المقنعة التي تتحمل تكلفتها هذه المؤسسات، وبذلك فقد وقع على أكتاف الصحافة المصرية عبء حمل عدد ضخم من العاملين وتحمل تكلفتهم العالية، إلى جانب أن هذه العمالة تتمتع بحماية نقابية وقانونية صارمة مبنية على سياسات حمائية خلفها وراءه العهد الاشتراكي والتي تجعل الاستغناء عن خدماتهم أمرًا صعبا إن لم يكن مستحيلًا، وبذلك صارت الصحافة المصرية ولا تزال تحمل على كاهلها هذا الثقل المرهق المميت، ما جعل بدوره مهمة تصديها ومواجهتها للتحديات وعملية الانتقال والتحول أكثر صعوبة ومشقة وعناء مقارنة بالصحف البحرينية والخليجية، كما أن أسبقية وريادة الصحافة المصرية رسخ وثبت قواعدها ومدد عروقها في تربة التاريخ مقارنة أيضًا بالصحافة الخليجية وضاعف من هذه الصعوبة وجعلها عصية على رياح التغيير.
وفق الله الأشقاء القائمين بكل إخلاص على جهود تطوير الصحافة الورقية المصرية العريقة وقيادة عملية تأهيلها لمواجهة التحديات التي تفرضها وسائل الإعلام الإلكترونية الحديثة.